< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الفقه

44/09/06

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس الرابع: تحقيق الروايات المعارضة لحجية البينة في إثبات الهلال

تم الكلام في الروايات التي دلت على ما ذهب إليه المشهور وهو حجية البينة مطلقاً في إثبات الهلال شرعاً، وقد اتضح أن الروايات الشريفة مستفيضة بل قال السيد الخوئي ـ ره ـ : <لا يبعد فيها دعوى التواتر الإجمالي>[1] .

فالمقتضي موجود وهو حجية البينة مطلقاً، ويقع الكلام في المانع فهل الروايات المعارضة تشكل مانعاً من الأخذ بالروايات المستفيضة أو المتواترة إجمالاً الدالة على حجية البينة مطلقاً. قد يتوهم أن هذه الروايات معارضة لما تقدم لأنها تدل على عدم حجية البينة في ما إذا لم تكن في السماء علة، ومن أجلها ذهب الشيخ يوسف البحراني[2] إلى هذا القول الذي ذهب إليه الشيخ الصدوق وشيخ الطائفة الطوسي، وابن البراج، وابن زهرة، وابن حمزة.

وقد تطرق صاحب الجواهر ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ في الجواهر[3] إلى روايتين قد تصلحان للمعارضة بل قد يظهر من عبارته عدم وجود الزائد عليهما لقول ـ قده ـ ما عدا روايتين، إلا أن السيد الخوئي ـ ره ـ قد تطرق إلى أربع روايات قد يتوهم فيها المعارضة إما لأجل الدلالة على عدم الحجية مطلقاً أو في خصوص عدم وجود العلة.

والصحيح ما ذهب إليه جملةٌ من المحققين من أعلام العصر وعلى رأسهم السيد محسن الحكيم[4] وقد تطرق إلى الروايتين التي ذكرهما صاحب الجواهر وهما خبر إبراهيم بن عثمان الخزاز وخبر حبيب الخزاعي أو الجماعي أو الخثعمي على اختلافٍ في ضبط اللقب كما سيأتي عند التطرق إلى هذه الرواية بشكلٍ مفصل.

وهذه الروايات الأربعة تجمعها نكته أشار إليها سيد المحقق السيد محسن الحكيم ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ وهو أن ظاهرها عدم حجية البينة مع الاطمئنان النوعي بالخطأ كما يشير إليه قوله ـ عليه السلام ـ في خبر الخزاز: <فلا تؤدى بالتظني>، وقوله ـ عليه السلام ـ : <إذا رآه واحدٌ رآه مائة>.

فالممنوع من حجية البينة خصوص الصور التي هي مورد الملازمة المذكورة لا مطلقاً، ولذا تضمنت هاتين الروايتين جواز الاعتماد على البينة مع وجود العلة وكون المخبر من خارج البلد لانتفاء الملازمة المذكورة حينئذٍ الموجب لانتفاء الاطمئنان بالخطأ النوعي.

إذاً الروايات الأربعة التي سنذكرها مفصلاً ليست في مقام سلب الحجية عن البينة وإنما هي في مقام بيان أننا نقطع بأن هذه البينة خاطئة وأن هناك أمارات نوعية يستند إليها النوع الإنساني تدل على خطأ هذه البينة كما لو كان الجوّ صحواً وخرج لرؤية الهلال ألف أو ألفين ولم يره إلا واحد أو اثنان فهل هذه البينة حجة أم مشتبه ومخطئه؟! ولو كانت هذه الروايات في مقام سلب الحجية عن البينة لما دلت على حجية البينة عندما يكون الجو غائماً أو به علة، ولو كانت هذه الروايات في مقام سلب الحجية عن البينة لما دلت على أن البينة إذا كانت من خارج المصر كانت حجة لأن داخل المصر الجو، ماذا؟ الجو غائم، خارج المصر الجو صحواً ورأته البينة.

فالصحيح ما ذهب إليه جملةٌ من المحققين، ونذكر المصادر ثم نشرع في بيان الروايات واحدة واحدة:

المصدر الأول مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج 8، ص 454.

المصدر الثاني المستند في شرح العروة الوثقى، السيد أبو القاسم الخوئي، كتاب الصوم، ج 22، ص 65.

المصدر الثالث وهو الأساس وهو مرجع جميع هذه المصادر جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، للمحقق الشيخ محمد حسن النجفي، ج 16، ص 355. ونسخة جماعة المدرسين، ج 17، ص 316 وما بعدها.

المصدر الرابع تنقيح مباني العروة، الشيخ الأستاذ الميرزا جواد التبريزي ـ ره ـ ، ص 155، وقد نصّ في هذه الصفحة على أن هذه الروايات الأربع إذا كانت شهادة الشهود موضع تهمة.

المصدر الخامس مصباح المنهاج، كتاب الصوم، السيد محمد سعيد الحكيم ـ ره ـ ، ص 294.

المصدر السادس الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء، الشيخ جعفر السبحاني، ص 74.

المصدر السابع المدارج الفقهية، ج 8، السيد محمد اليثربي الكاشاني ـ حفظه الله ـ ، كتاب الصوم، ج 2، ص 138.

فهؤلاء الأعلام ذهبوا إلى عدم تقييد الروايات المطلقة التي دلت على حجية البينة.

نعم، من المعاصرين ذهب السيد محمد المحقق الداماد في كتابه[5] إلى ما ذهب إليه الشيخ الطوسي، والصدوق، وابن البراج، وابن زهرة، وابن حمزة، من تقييد روايات حجية البينة وهو يرى صحة الروايات العامة الدالة على حجية مطلق البينة لكنها تقييد في خصوص الهلال إذا كان الجو صحواً بخمسين رجلاً عدد القسامة.

وسيتضح إن شاء الله أثناء البحث في هذه الروايات بشكلٍ مفصل أن الصحيح ما ذهب إليه صاحب الجواهر وتبعه السيد الحكيم والسيد الخوئي وجملة من تلامذتهم، من أن الروايات الدالة على حجية مطلق البينة سالمة عن التقييد ونتمسك بإطلاقها وأن الروايات الأربع التي يتوهم معارضتها لا تصلح للمعارضة. فاثنتان منها ضعيفتا السند، واثنتان منها وإن صح سندهما ولكن يمكن المناقشة في دلالتهما.

فهذه الروايات الأربعة ناظرة فيما لو كانت هناك أمارة نوعية تدل على خطأ البينة بحيث يسلب الوثوق النوعي بصحة مؤدى البينة فهي ليست في مقام سلب الحجية عن أصل حجية البينة.

ولنتطرق إلى الروايات الأربع تباعاً:

الرواية الأولى رواية حبيب الخزاعي، قال: قال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : <لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً عدد القسامة وإنما تجوز شهادة رجلين إذ كانا من خارج المصر وكان بالمصر علة فأخبرا أنهما رأياه وأخبر عن قومٍ صاموا للرؤية وافطروا للرؤية>[6] .

ولقد صال وجال، وجاد وأفاد سيد أساتذتنا السيد أبو القاسم الخوئي في مناقشة هذه الرواية والروايات الأربع، ونحن نتطرق إلى ما أفاده في مستند العروة الوثقى[7] .

أولاً هذه الرواية ضعيفة السند، ففيها إسماعيل بن مرار، والسيد الخوئي يوثقه لأنه ورد في أسناد تفسير علي بن إبراهيم القمي، لكننا لا نبني على وثاقة جميع الرجال الواردين في أسناد تفسير القمي لأن النسخة الواصلة إلينا نسخة مخلوطة بين تفسير أبي الجارود الزيدي وتفسير علي بن إبراهيم القمي، والجامع لكلا التفسيرين مجهول وهو أبو الفضل العباس، فلا يمكن التعويل على النسخة الواصلة إلينا من تفسير القمي، فلا يكون هذا التفسير من التوثيقات العامة.

وعليه بناءً على مبنانا تكون هذه الرواية ضعيفة بإسماعيل بن مرار إلا أنه يمكن توثيق إسماعيل بن مرار بناءً على مبنى السيد الخوئي من صحة جميع الرجال الواردين في أسناد تفسير علي بن إبراهيم القمي إذا كانوا إمامية.

نعم، هذه الرواية ضعيفة أيضاً من أجل حبيب الخزاعي كما في التهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي وجامع الرواة للمحقق الأردبيلي[8] أو الجماعي كما في ضبط الجواهر[9] فعلى كلا التقديرين الخزاعي أو الجماعي فالرجل مجهول.

نعم، في نسخة الوسائل القديمة الخثعمي وردّ الخثعمي، يقول السيد الخوئي: لكن الظاهر أن سهوٌ من قلمه الشريف، وإذا رجعنا إلى نسخة وسائل الشيعة المحققة حديثاً تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث لا نجد لقب الخثعمي.

وعلى أفضل التقادير لو قلنا إن الخثعمي موثق إلا أنه لم يثبت أنه هو الراوي لأنه لم يرد في النسخة المحققة الحديثة ولعله من سهو القلم، فعلى أفضل التقادير الرجل مردد بين الموثق وغيره، بين أن يكون موثقاً لو كان هو الخثعمي وهذا يحتاج إلى ثبوت النسخة لو لم نقل بعدم ثبوتها، وبين أن يكون غير موثق كما لو كان الخزاعي أو الجماعي فالرواية محكومةٌ بالضعف على كل تقدير.

فحتى لو قدرنا الخثعمي إلا أنه لم يثبت أن الخثعمي هو الراوي لهذا الحديث.

مداخلة طالب: المصدر الأصلي..

جواب الأستاذ: صحيح إذا رجعنا إلى المصدر الأصلي لا يوجد الخثعمي.

الطالب:..

الأستاذ:.. فإذا الرواية ضعيفة إما الخزاعي وإما الجماعي، في نسخة التهذيب والاستبصار الخزاعي، وهكذا ضبطها المحقق الأردبيلي في جامع الرواة.

إذاً أولاً هذه الرواية ضعيفة السند.

وثانياً إنها قاصرة الدلالة وغير صالحة للمعارضة لأن ظاهرها لزوم التعويل في أمر الهلال على العلم أو العلمي فإما الأخذ بالقطع واليقين أو بالأمارة العلمية التي قام عليها دليلٌ قطعي ولا يجوز الاتكال على الاحتمال أو التظني ففي فرض استهلال جماعة كثيرين وليس في السماء علة والجو صحوٌ فلو ادعى الهلال حينئذٍ رجلان فقط قد يطمأن بخطأهما فلا تكون مثل هذه البينة مشمولة لدليل الحجية، فلا ينافي ذلك حجية البينة في نفسها.

ولأجل ذلك أجاز ـ عليه السلام ـ شهادة الرجلين مع وجود العلة وكون المخبر من خارج البلد لانتفاء المحذور المذبور حينئذٍ.

وثالثاً لو سلمنا بصحة هذه الرواية سنداً وتماميتها دلالةً فغايته إن هذه الرواية تتعارض مع الروايات الخاصة المتقدمة التي دلت على حجية البينة في خصوص الهلال فيتساقطان ويرجع بعد إذنٍ إلى عمومات حجية البينة التي دلت على حجية مطلق البينة، هذا ما أفاده سيد أساتذتنا المحقق الخوئي ـ ره ـ .

وناقشه تلميذه الوفي شيخنا الأستاذ الميرزا جواد التبريزي ـ ره ـ[10] قائلاً: عند التعارض لا نلتزم بالتساقط والرجوع إلى عمومات حجية مطلق البينة فإن روايات حجية مطلق البينة تدل على حجية البينة مطلقاً سواءً كان الجو صحواً وسواءً كان الجو به علة كما لو كان غائماً.

فإذا التزمنا بصحة رواية الخزاعي أو الجماعي أو الخثعمي فإنها تدل على الأخص لا الأعم، فهي تدل على حجية البينة في خصوص ما إذا كان الجو غائماً لا ما إذا كان صحواً، وهي تدل على حجية البينة في خصوص ما إذا كانت البينة من خارج البلد لا ما إذا كانت البينة من داخل البلد، فمقتضى الصناعة العلمية حمل المطلق على المقيد وحمل العام على الخاص، فلو التزمنا بصحة رواية الخزاعي أو الجماعي أو الخثعمي فعند التساقط لا نرجع إلى عموم حجية روايات الروايات التي دلت على حجية مطلق البينة فإن هذا الإطلاق يخصص بهذه الرواية الخاصة.

وهكذا مال إلى ذلك السيد محمد المحقق الداماد ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ [11] فإنه أشار إلى أن الدليل العام الدال على حجية مطلق البينة يخصص بمفاد هذه الروايات الخاصة.

والصحيح ما ذهب إليه سيد أساتذتنا المحققين السيد أبو القاسم الخوئي ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ .

والسرّ في ذلك:

أن مقتضى التخصيص يلزم منه حمل الروايات المستفيضة المتواترة إجمالاً على الفرد النادر، فإنه من النادر جداً أن يكون الجو صحواً ولا يراه إلا واحد أو اثنان فتأتي الروايات المستفيضة والمتواترة إجمالاً للإشارة إلى فردٍ نادر الحصول، ومن النادر جداً أيضاً أن يكون الجو غائماً ولا يراه أحدٌ داخل البلد ويراه اثنان من خارج البلد بحيث يكون الجو صحواً خارج البلد.

وقد أشار[12] إلى هذه النكتة السيد الخوئي ـ ره ـ ولكن ليس في مناقشة الرواية الأولى وهي خبر حبيب الخزاعي بل أشار إلى ذلك في مناقشة الرواية الرابعة وهي صحيحة أبي أيوب إبراهيم بن عثمان الخزاز، والرواية الأولى والرابعة للسيد الخوئي هما نفس الروايتان اللتان ذكرهما صاحب الجواهر، وذكرهما السيد محسن الحكيم في المستمسك.

وبعد هذا البيان أقول: ليس ببعيد ما ظنه صاحب الجواهر ومال إليه واستجوده السيد الخوئي في المستند من أن هذه الروايات ناظرة إلى العامة وتعرض بالعامة الذين اكتفوا بالظن وأثبتوا أول هلال شهر رمضان برجلٍ واحد وصوموا الناس في شهر رمضان بناءً على ظنّ أو حدس أو مجرد دعوى من رجلٍ.

قال صاحب الجواهر ـ أعلى الله في الخلد مقامه ـ ما نصّه : <وظني والله اعلم أنهما تعريضٌ لما في يدّ العامة من الاجتزاء بشهادة رجلين في الصحو مع القطع بكذبهما، باعتبار عدم العلة في الرائي والمرئي وكثرة المتطلعين وغير ذلك.

وعلى كل حال فلا ريب في سقوطهما في مقابلة ما عرفت، لكن اطنب في الحدائق وظنّ أنه قد جاء في الباب بما لم يلم به أحدٌ من الأصحاب، وهو الجمع بين هذين الخبرين وبين غيرهما من النصوص الدالة على الاجتزاء بشهادة الشاهدين>[13] .

ثم قال صاحب الجواهر: <إن مبنى تلك النصوص الإنكار على ما هو متعارفٌ عند العامة من الشهادة على الهلال زوراً وأنه يجيء الواحد منهم فيقول: (رأيته من بين الجم الغفير) بل ربما ادعى رؤيته في غير إمكانها كما لا يخفى على من له علمٌ بأحوالهم وفساد مذهبهم، فخرجت هذه النصوص مخرج الإنكار عليهم، لا لبيان عدم الاجتزاء بالشاهدين العدلين الذين قد اكتفى الشارع بهما في جميع الموضوعات التي فيها ما هو أعظم من رؤية الهلال بمرات كالدماء ونحوها.

فلا ينبغي التوقف في ذلك ولا اطناب في فساد ما يخالفه والله العالم>[14] .

هذا تمام الكلام في مناقشة الرواية الأولى.

الرواية الثانية رواية أبي العباس عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ يأتي عليها الكلام وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

 


[5] كتاب الصوم والاعتكاف، تقرير الشيخ محمد جوادي آملي، ج2، ص34.
[8] تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج4، ص159.الاستبصار، ج2، ص47، الحديث 227.جامع الرواة، ج1، ص178.
[11] تقرير الشيخ عبد الله جوادي آملي، كتاب الصوم والاعتكاف، ج2، ص34 وما قبلها.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo