< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الفقه

44/09/07

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس الخامس: الرواية الثانية التي قد يتوهم معارضتها لأدلة حجية البينة في إثبات الهلال

 

رواية أبي العباس عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: <الصوم للرؤية والفطر للرؤية وليس الرؤية أن يراه واحد ولا اثنان ولا خمسون>[1] .

لكن هذه الرواية ليست تامة سنداً ودلالةً.

أما من ناحية السند فهي ضعيفةٌ بالقاسم بن عروة فإنه لم يوثق. نعم، ورد توثيقه في الرسالة الساسانية[2] ولكن الرسالة الساسانية لم يثبت بطريق صحيح أن مؤلفها الشيخ المفيد ـ قده ـ فهناك جملة من الكتب قد يتأمل في ثبوتها للشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد ـ قده ـ كـ كتاب الاختصاص والرسالة الساسانية.

إذاً هذه الرواية ضعيفةٌ سنداً.

ولو غضضنا النظر عن ضعف سند هذه الرواية إلا أنها ليست تامة من ناحية الدلالة فهي قاصرة الدلالة لأن هذه الرواية في مقام بيان أن مجرد دعوى الرؤية لا أثر له حتى ولو صدر من خمسين، لذلك لم تذكر الرواية وصف العدالة للشاهد سواء كان واحداً أو اثنان أو خمسين، الرواية ليست في مقام ردّ حجية البينة العادلة وإنما الرواية في مقام بيان أن مجرد دعوى المشاهدة لا يكفي حتى لو صدر من خمسين فضلاً عن شاهدين إذا لم يكونا عدولاً لأن الشهود الخمسين يجوز تواطئهم واتفاقهم على الكذب فغاية شهادة الخمسين من دون توفر عنصر العدالة هو الظن والظن لا يغني من الحقّ شيئاً.

فلا يسوغ التعويل عليهم فلا بدّ من الاعتماد إما على العلم أو العلمي الذي هو بمنزلة العلم فلا تنافي بين دلالة هذه الرواية وبين دلالة ما دلّ على حجية البينة وأن البينة حجة تعبداً وأنها بمثابة العلم تعبداً.

والخلاصة:

هذه الرواية ناظرة إلى عدم كفاية الظن، وكأنها تعريض بالعامة كما قال صاحب الجواهر ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ وكما يقول السيد أبو القاسم الخوئي قال ـ قده ـ : <وكأنها على ما أشار إليه في الجواهر في ذيل روايةٍ أخرى[3] تعريضٌ على العامة حيث استقر بنائهم قديماً وحديثاً على الاستناد على مجرد دعوى الرؤية ممن يصلي ويصوم، ومعلومٌ أن هذا بمجرده غير كافٍ في الشهادة، إذا هذه الرواية أجنبيةٌ عن فرض قيام البينة>[4] لذلك لم يفرض في هذه الرواية في الخمسين أنه كان فيهم عدولاً.

إذا الرواية الثانية لا تصلح لمعارضة أدلة حجية مطلق البينة فضلاً عن معارضة أدلة حجية البينة في خصوص المقام وهو ثبوت هلال شهر رمضان أو شوال.

الرواية الثالثة صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال: <إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية>. قال ـ عليه السلام ـ : <والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد: هو ذا هو، وينظر تسعةٌ فلا يرونه. إذا رآه واحدٌ رآه عشرة آلاف وإذا كانت علة فأتم شعبان ثلاثين>. وزاد حماد فيه: <وليس أن يقول رجلٌ: هو ذا هو لا اعلم إلا، قال: ولا خمسون>[5] .

والمذكور في بعض نسخ الوسائل <أيوب> والصحيح <أبي أيوب>، كما صرح به الحرّ العاملي لدى تعرضه للرواية في الباب الثالث من أحكام شهر رمضان الحديث 2، فكلمة أبي سقطعت في بعض نسخ الوسائل.

السيد الخوئي يقول: كلمة <أبي> سقطت في نسخة الوسائل لا في خصوص هذه الطبعة.

ولكن محقق موسوعة الإمام الخوئي في حاشية رقم (2) يقول: <هذه الكلمة موجودة في الوسائل المحقق جديداً>[6] .

الوسائل الذي كان يعتمد عليها السيد الخوئي النسخة الحجرية ثم أول وسائل انتشر نسخة عبد الرحيم عشرين مجلد، أما الآن موجود عدة نسخ للوسائل أبرزها وأهمها:

تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ثلاثين مجلداً.

وتحقيق جماعة المدرسين وسائل الشيعة ومستدركها.

هاتان النسختان قوبلت فيهما نسخة الوسائل على عدة نسخ خطية وهي أدق من النسخة الحجرية ونسخة عبد الرحيم. نعم، أحياناً هناك ضبطٌ في نسخة عبد الرحيم قد لا يتوفر في هاتين النسختين.

عموماً وكيف كان... فحال هذه الرواية حال الرواية الأولى والثانية فإن سياقها يشهد أنها في مقام بيان عدم الاكتفاء بمجرد الظن وعدم الاعتماد على الرأي الناشئ مثلاً من كبر الهلال أو ارتفاعه وغير ذلك فلا أثر لذلك وإن كاثر المدعون وبلغوا خمسين فعدد الخمسين كناية عن الكثرة التي لا تستند إلى ما يوجب اليقين والقطع بل مجرد تخرصات وظن، فيحتمل تواطئ الخمسين واتفاقهم على الكذب إلا إذا افترضنا أن فيهم عدولاً أو ثقاةً وأين هذا الكلام من حجية البينة العادلة، فحجية البينة العادلة ناظرة إلى أن عدالة الشاهدين تقتضي حجية إخبارهم بمقتضى الدليل التعبدي وهذه الرواية تشير إلى أنه الهلال يثبت بالرؤية والمعاينة الحسية ولا يثبت بالظن ولا يثبت بالرأي وإنما يثبت بالمعاينة والمشاهدة الحسية بحيث لو رأه واحد رأه عشرة آلاف يعني يعبر عن درجة من الوضوح لا أن يراه عشرة فلا يشهد إلا واحد وتسعة لا يرونه.

إذاً هذه الرواية الثالث لا تنافي دليل حجية البينة ولا تصلح للمعارضة.

الرواية الرابعة والأخيرة وهي الأهم لأنها صحيحة السند وهي صحيحة أبي أيوب إبراهيم بن عثمان بن الخزاز عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: <قلت له كم يجزء في رؤية الهلال؟ فقال: إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحدٌ: قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره!. إذا رآه واحد رآه مائة وإذا رآه مائة رآه ألفٌ، ولا يجزء في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علة قبلة شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصرٍ>[7] .

وربما يتوهم معارضة هذه الرواية لما دلّ على حجية البينة مطلقاً أو حجية البينة في خصوص المقام وهو رؤية الهلال لدلالة هذه الرواية على أن السماء إذا لم يكن فيها علة لا تقبل شهادة الاثنين حينئذٍ ولا الأكثر.

ولكن حال هذه الرواية حال بقية الروايات الثلاث المتقدمة فلو تأملنا فيها لوجدنا أنها بصدد بيان عدم جواز العمل بالظن وقد عنون ـ عليه السلام ـ كلامه بذلك إذ قال: <إن شهر رمضان من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني>، فالمقصود إنما هو المنع عن العمل بالظن في فريضة شهر رمضان ولزوم تحصيل اليقين والعلم، ولذلك لم تفرض العدالة في الأقل من الخمسين، ولا بدّ من حمل عدد الخمسين على المثال وإلا لا يمكن أن نلتزم بأن عدد خمسين يوجب القطع والعلم واليقين وعدد تسعة وأربعين وما دون الخمسين لا يوجب العلم واليقين! فالمراد التمثيل بعددٍ يوجب حصول العلم عادةً وغالباً وفي الغالب عدد الخمسين يوجب الاطمئنان وقد يوجب العلم.

إذاً هذه الرواية مسوقة لبيان عدم حجية الظن.

مداخلة لطالب: قلتُ له.. مضمرة؟!

الأستاذ: عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ ذكر الإمام أبو عبد الله الصادق ليست مضمرة، <قلتُ له> يعني لأبي عبد الله الصادق فهي ليست مضمرة. نعم، مضمرة بالمعنى العام بمعنى أن فيها ضمير وعلم مرجع الضمير.

مداخلة: من الذي قال: قال..

الأستاذ: الخزاز، الخزاز قال: قلت له يعني قلت لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ الرواية تامة من ناحية السند وإضمارها لا يضر بها.

بل يمكن أن ندعي أن هذه الرواية فيها شاهدٌ يدل على حجية البينة إذ أن الإمام ـ عليه السلام ـ حكم بقبول الشهادة إذا كانت في السماء علة <فيما إذا قدم الشاهدان من خارج المصر>[8] .

وهنا نسأل ونفصل هذان الشاهدان اللذان قدما من خارج المصر والبلد، هل ذلك البلد الآخر سماؤه صفو وصافية أم سماؤه معتمة وفيها علة؟

إن قلنا إن البلد الآخر به علة أيضاً كما أن البلد به علة ففي هذه الحالة يكون حال خارج البلد حال نفس البلد فكيف لا تقبل شهادة العدلين داخل البلد والجو غائم وبه علة بينما تقبل شهادة العدلين خارج البلد والحال إن الجو نفس الشيء غائم وبه علة ومعتم؟!

إذا فرض أن خارج البلد كداخل البلد في أن الجو به علة خلاف ظاهر الرواية فيتعين الفرض الثاني وهو أن يكون الجو خارج البلد صحواً وليس به علة وداخل البلد به علة ومعتماً وهذا هو المتعين.

فإذا قبلنا شهادة الشاهدين العدلين أي البينة خارج البلد إذا لم يكن في سمائه علة وكان الجو صحواً فلما لا نقبل شهادة العادلين داخل البلد إذا كان الجو صحواً ولم يكن في سماء البلد علة؟! فالتفكيك بين حجية البهيتة في الشهادة داخل البلد وخارج البلد مع وحدة الجو وتكون السماء صافية هذا التفكيك مع تساويهما في عدم العلة غير قابل للتصديق.

إذا هذه الصحيحة لا تعارض حجية البينة بل تؤكدها لأنها دلت على حجية إخبار البينة العادلة إذا جاءت من خارج البلد وكان الجو به علة داخل البلد.

إذا هذه الرواية فيها إشارة إلى أن البينة حجة إلا إذا قامت أمارة نوعية توجب عدم الاطمئنان بقبول مؤدى البنية كما لو كان الجو صحواً وشهد الآلاف وخرج الآلاف لمشاهدة الهلال ولم يدعي الرؤية إلا واحد أو اثنان فالرواية ناظرة إلى موارد التهمة الرواية ناظرة إلى قيام أمارات نوعية توجب عدم العمل بمؤدى البينة كما لو دلت هذه الأمارة على خطأ البينة أو الجزم باشتباه البينة لذلك نبه الإمام ـ عليه السلام ـ في صدر جوابه قائلاً: إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدى بالتظني بل لابدّ من قيام العلم أو ما يقوم مقام العلم كالحجة ومن الحجج البينة الشرعية.

ولو تنزلنا وسلمنا المعارضة بين هذه الرواية صحيحة الخزاز وبين الروايات الخاصة التي دلت على حجية البينة في ثبوت هلال شهر رمضان أو شوال، فإذا سلمنا المعارضة يحصل التساقط بين هذه الرواية والأدلة الخاصة فنرجع إلى الأدلة العامة وما دل على حجية البينة مطلقاً كقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ : <إنما أقضي بينكم بالبينات والأشهاد>.

ولا يرد ما أورده شيخنا الأستاذ الميرزا جواد التبريزي[9] من أن هذه الرواية خاصة وأدلة حجية مطلق البينة عامة فيكون مقتضى الصناعة حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد لأن هذا التقييد والتخصيص يلزم منه حمل الروايات المستفيضة بل التي قد يدعى أن فيها تواتر إجمالي الدالة على حجية البينة مطلقاً والدالة على حجية البينة في خصوص المقام يلزم حمل هذه الروايات الكثيرة على مورد نادرٍ وموردٍ خاص وهو ما إذا كان الجو به علة وشهد شاهدان من خارج المصر أو هذا الجو كان صحواً ولم يشهد برؤية الهلال إلا شاهد واحد أو شاهد عادلين، فإن هذا الفرض وإن كثر في أزمنتنا هذه حتى اصطلح على بعضهم بالشوافة كل الناس تستهل ما احد يشوف بس هذا صقر الخليج أو صقر الأمة العربية والإسلامية سنوياً يرى الهلال ويقولون هو من الشوافة.

هذا المورد وإن كثر لكنه ليس مورداً عاماً ودائمي بحيث يحصل كل سنة بحيث تأتي روايات مستفيضة أو متواترة إجمالاً وتنظر إلى خصوص هذا الفرض.

فالصحيح ما أفاده سيد أساتذتنا السيد أبو القاسم الخوئي إذ قال ما نصّه: <ولو تنازلنا وسلمنا المعارضة فحيث لا يمكن حمل نصوص الحجية على ما إذا كانت في السماء علة وكانت البينة من الخارج للزوم التخصيص بالفرد النادر كما لا يخفى. فلا مناص من التساقط والمرجع بعدئذٍ إطلاقات حجية البينة العامة فما ذهب إليه المشهور من حجية البينة على الهلال من غير فرق بين إذا كانت في السماء علة أم لا هو الصحيح>[10] .

وهو المؤيد المنصوب، والله العالم.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo