< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الفقه

44/09/08

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس السادس: اشتراط توافق شهود البينة في الأوصاف وعدم اختلافهم

قال السيد محمد كاظم اليزدي في العروة الوثقى ما نصّه:

<نعم يشترط توافقهما في الأوصاف فلو اختلفا فيها لا اعتبار بها. نعم، لو أطلقا أو وصف أحدهما وأطلق الآخر>[1] كفى انتهى كلامه زيد في علو مقامه.

في هذه المسألة توجد أربع صور:

الصورة الأولى أن يطلق كلا الشاهدين كما لو قال الأول: <رأيت الهلال> ويقول الثاني: <رأيت الهلال> من دون ذكر قيود مقيدة لهذه الرؤية فتكون شهادة جميع الشهود بنحو الإطلاق.

الصورة الثانية أن يطلق أحدهما يقيد الآخر بصورةٍ خاصة كما لو قال الشاهد الأول: <رأيت الهلال> ولم يذكر وصفه، وقال الشاهد الثاني: <رأيت الهلال وقد كان شمالياً> أو قال: <رأيت الهلال وقد كان قوسه نحو الأعلى أو نحو الأسفل>.

الصورة الثالثة أن يقيد كلٌ من الشاهدين بقيدٍ يطابق الآخر كما لو قال كل منهما: <رأيت الهلال وقد كان شمالياً أو جنوبياً أو كان قوسه نحو الأعلى أو نحو الأسفل>.

وحكم هذه الصور الثلاث واضحٌ إذ لا تعارض ولا تكاذب بين الشاهدين فيصدق عنوان قيام البينة على شيءٍ واحد فتثبت الحجية.

إنما الكلام كل الكلام في الصورة الرابعة.

الصورة الرابعة أن يقيد كل من الشاهدين بقيدٍ يخالف الآخر وهذه الصورة على نحوين:

النحو الأول أن يكون الموصوف قد ذكر بنحو تعدد المطلوب.

النحو الثاني من الصورة الرابعة أن يكون الموصوف قد ذكر بنحو وحدة المطلوب كما يقول السيد محسن الحكيم[2] .

أما النحو الأول وهو أن يذكر الموصوف بنحو تعدد المطلوب كما لو قال الشاهد الأول: <رأيت الهلال وقد كان مقارناً لغيمة أو غيمتين>، وقال الشاهد الثاني: <رأيت الهلال ولم تقترن به غيمة فضلاً عن غيمتين> فهنا مطلوبان:

المطلوب الأول ذات الهلال والمطلوب الثاني اقتران الغيمة أو الغيمتين بالهلال.

وهذا ما عبر عنه السيد أبو القاسم الخوئي ـ رحمه الله ـ [3] بأن يكون القيد من الأمور المقارنة غير الدخيلة في حقيقة الهلال فالغيم واقترانه بالهلال ليس من الأمور المقومة لحقيقة الهلال، ففي هذا النحو الأول من الصورة الرابعة إذا كان الموصوف بنحو تعدد المطلوب على حدّ تعبير السيد محسن الحكيم في المستمسك أو كان من الأمور غير الدخيلة في حقيقة الهلال كما يقول السيد أبو القاسم الخوئي.

فحينئذ لا إشكال في عدم قدح هذا التكاذب في حقيقة البينة فالبينة الشرعية قد تتحقق إذ أن كلاً منهما قد اتفق على الشهادة بأصل رؤية الهلال، غايته هل توجد ضميمة وهي اقتران السحاب والغيمة بالهلال كما يقول الشاهد الثاني أو لا توجب ضميمه كما يقول الشاهد الأول ولا ضير في ذلك لأن هذه الضميمة أجنبية عن نفس الهلال.

هذا من قبيل ما لو شهد أحدهما على الطلاق وقال: إن المطلق كان يلبس ثوباً أبيضاً وشهد الثاني على إيقاع الطلاق وقال: إن المطلق كان يلبس أصفراً فبياض أو صفرة لباس المطلق لا دخل له في إيقاع حقيقة الطلاق، فهنا يوجد تعدد في المطلوب الموصوف فيه أمران:

الأول وقوع الطلاق.

الثاني بياض أو صفرة لباس المطلق.

فهذه الحيثية وهي بياض أو صفرة لباس المطلق أجنبية عن حريم الطلاق بالكلية فيؤخذ بالشهادة على أصل وقوع الطلاق الذي هو مورد الشهادة لاتفاق الشاهدين على وقوع الطلاق بلا إشكال وتكاذبهما في الحيثية الثانية وهي لون لباس المطلق لا يضر بأصل الشهادة.

إلى هنا اتضح أن الصور الثلاثة الأولى والنحو الأول من الصورة الرابعة لا تضر هذه الصور الأربع بتحقق عنوان البينة فتثبت لها الحجية.

النحو الثاني من الصورة الرابعة أن يكون الموصوف قد أخذ بنحو وحدة المطلوب على حدّ تعبير السيد محسن الحكيم في المستمسك أو أن يكون القيد من الخصوصيات الفردية المقيدة لشخص الهلال وحقيقته كما يقول السيد أبو القاسم الخوئي المستند.

كما لو شهد الشاهد الأول بأن الهلال كان شمالياً وشهد الشاهد الثاني بأن كان جنوبياً أو شهد الشاهد الأول بأن قوس الهلال كان إلى الأعلى نحو السماء وشهد الشاهد الثاني بأن قوس الهلال كان إلى الأسفل نحو الأرض، فهنا شهادة كل منهما تتعلق بفردٍ مغايرٍ تماماً للفرد الآخر كما لو شهد أحدهما بأن الهلال كان مطوقاً يحصل إليه طوق يظهر كأنما خطّ البدر وشهد الثاني بأن الهلال لم يكن مطوقاً.

فهنا يحصل تكاذب بين الشهادتين فما يثبته الشاهد الأول ينفيه الشاهد الثاني والعكس بالعكس ولا يعقل أن يكون الهلال الواحد في نفس الوقت وفي نفس الآن متصفاً بصفتين وخصوصيتين متضادتين فمن يدعي الشمالية ينفي الجنوبية ومن يدعي أن القوس نحو الأعلى ينفي أن القوس نحو الأسفل.

إذاً لم يتفق الشاهدان على شيء واحد وهلال فارد فلا تتحقق البينة الشرعية فتسقط الحجية.

ولكن قد يستدرك باستدراك غير تام فيقام بأن الشاهدين لو اختلفا في المدلول المطابق وهو الإخبار عن فردٍ خاصٍ من الهلال لكنهما قد اتفقا في المدلول الالتزامي وهو الإخبار عن كلي وجود الهلال فكلٌ منهما يخبر عن أصل وجود الهلال، وهذا الجامع الكلي قابل للانطباق على كلا الفردين الهلال الشمالي والهلال الجنوبي الهلال الذي قوسه نحو الأعلى والهلال الذي قوسه نحو الأسفل.

وفي موارد مقولة الحكاية ومنها البينة الشرعية لا فرق في حجية الحكاية والبينة بين المدلول المطابقي والمدلول التزامي فإذا سقطت الحجية عن الملول المطابقي تبقى الحجية في المدلول التزامي.

وبالتالي لا مانع من الأخذ بالمدلول الالتزامي إذا سقطت الحجية عن المدلول المطابقي إما لأجل المعارضة أو لأجل عدم حصول الشهادة الشرعية.

فتكون النتيجة لو اختلفا بنحو وحدة المطلوب أو كانت شهادة كل منهما فيها قيد فردي يشير إلى خصوصية فردية للهلال فحينئذٍ يسقط كلا المدلولين المطابقيين لتكاذبهما وعدم إمكان الجمع بينهما فلا يمكن أن يكون الهلال في نفس الآن شمالياً وجنوبياً ولا يمكن أن يكون في نفس الآن نحو الأعلى ونحو الأسفل، ولكن يبقى المدلول الالتزام لهما وهو الشهادة بأصل وجود الهلال مع غمض النظر عن تفصيله من أنه شمالي أو جنوبي.

ولكن هذا الكلام والاستدراك ليس بتام، ومحل تحقيقه كتاب المياه من الطهارة، وقد حقق هذا المطلب سيد المحققين السيد محسن الحكيم[4] ، وقد حققه مع بسطٍ من القول سيد أساتذتنا السيد الخوئي[5] .

وخلاصة ما ذهب إليه المحقق الخوئي ـ رحمه الله ـ ما تم تحقيقه أصولياً وهو أن الدلال على التزامية تابعة للدلالة المطابقة في الوجود والحجية معاً فإذا سقط أصل وجود المدلول المطابقي سقط أصل وجود المدلول الالتزام، وإذا سقطت حجية المدلول المطابقي أيضاً سقطت حجية المدلول الالتزام فالدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقة أولاً في أصل الدلالة وتحققها وثانياً في حجية المتفرعة على أصل الوجوب.

هذا هو مقتضى مستند حجيته بين وأهمه السيرة العقلائية فإن سيرة العقلاء جارية على أن المدلول الالتزامي تابع للمدلول المطابق في أصل الوجود أولاً وفي الحجية ثانياً فالمدلول الالتزامي تابع للمدلول المطابقي ثبوتاً وسقوطاً وجوداً وحجية.

هذا من ناحية الكبرى أصولياً.

ولنضرب مثالاً أو مثلين في الفقه يضرب السيد الخوئي مثالين[6] :

المثال الأول لو قامت البينة على أن الدار التي هي تحت يدّ زيد إنما هي لعمرو وليست لزيد فهنا تقدم البينة على أمارية اليدّ ونحكم بأن الدار لعمرو بسبب شهادة البينة وليست الدار لزيد وإن كانت تحت يده فالبينة مقدمة على اليدّ.

هذه البينة لها مدلول مطابقي ولها مدلول التزامي:

المدلول المطابقي إن الدار لعمرو وليست لزيد.

ولها دلالة التزامية باللزوم البين بالمعنى الأخص وهي أن الدار ليست لزيد، البينة إذا قالت: <هذه الدار لعمرو> فهذا يعني أن الدار ليست لغير عمرو ومنهم زيد فهي ليست لزيد.

إذا عندنا مدلول مطابقي للبينة أن الدار لعمرو ومدلول التزامي للبينة وهي أنها ليست لزيد لأنه يمتنع اجتماع ملكيتين مستقلتين على مال واحد.

فلو افترضنا أن عمراً الذي شهدت البينة بأن الدار له قد أقر بأن الدار ليست له فهنا يقدم الإقرار على البينة وينتفي المدلول المطابقي للبينة ونحكم بأن الدار ليست لعمرو لأن عمراً قد أقر بأن الدار ليست له والإقرار مقدمٌ على البينة فهنا يسقط المدلول المطابقي وهو أن الدار لعمرو.

فلو قلنا بأن المدلول الالتزامي لا يسقط وهو أن الدار ليست لزيد فحينئذ لا نأخذ بأمارية زيدٍ على الدار بل نلتزم بأن الدار تعامل معاملة مجهول المالك لأن البينة مقدمة على أمارية اليدّ والبينة قد سقط مدلولها المطابقي وهو أن الدار لعمرو لكن لم يسقط مدلولها التزامي وهو أن الدار ليست لزيدٍ.

أفهل يتعامل الفقهاء مع هذه الدار معاملة مجهول المالك؟!

كلا وألف كلا.

والسرّ في ذلك:

أن الشهادة على الملزوم وإن كانت شهادة على اللازم ولا سيما في اللزوم البين بالمعنى الأخص كما في المثال إلا أن الشهادة ليست على اللازم مطلقاً بل الشهادة تكون على حصة خاصة وهي خصوص اللازم لهذا الملزوم المجتمع معه في الوجود فمن يخبر بأن الدار لعمرو فهو يخبر عن عدم كونها لزيد ولكن لا يخبر عن مطلق العدم وإنما يخبر عن حصة خاصة من العدم وهو ذلك العدم الذي هو لازمٌ لملكية عمرو لا أنه يخبر عن عدم ملكية زيد على الإطلاق وإنما هو يخبر عن خصوص عدم ملك زيد المقارن لثبوت ملكية عمرو، وفرقٌ كبير بين عدم ملكية زيد مطلقاً يعني كلي عدم ملكية زيد وبين خصوص حصة خاصة من عدم ملكية زيد وهي خصوص حصة عدم ملكية زيد المقارنة لثبوت ملكية عمرو، هذه الحصة تسقط بسقوط ملكية عمرو.

وهكذا بالنسبة إلى الثلج فمن أخبر عن أن هذا ثلج فقد أخبر عن بياضه ولا يخبر عن طبيعي وكلي البياض الجامع بين الثلج والقطن فإذا سقط المدلول المطابقين من أنه ثلجٌ فلا يسقط حينئذ كلي البياض وإنما يسقط حصة خاصة من البياض وهي البياض المقارن لكونه ثلاجاً.

والخلاصة:

الإخبار عن الملزوم في باب الشهادة وغيرها إنما يكون إخباراً على اللازم فيما هو لازمٌ له أي عن الحصة الخاصة الملازمة لهذا الملزوم لا عن الطبيعي.

الخلاصة:

من شهد برؤية الهلال في طرف الجنوب لا يخبر بالدلالة الالتزامية عن وجود جامع الهلال وإنما يخبر عن وجود حصة خاصة من الهلال مقارنة للمدلول المطابقي وهو الهلال الجنوبي فإذا سقط المدلول المطابقي وهو الهلال الجنوبي سقط لازمه وهو حصة خاصة من الهلال مقارنة للهلال الجنوبي لا أن المدلول الالتزامي هو كلي وجود الهلال.

وبالتالي إذا سقط المدلول المطابقي سقط معه المدلول الالتزام وهو خصوص الحصة الخاصة المقارنة للمدلول المطابق لا مطلق وطبيعي وكلي المدلول الالتزامي.

مثال آخر ونختم به: لو ادعى كل من زيد وعمرو أن بكراً باعه داره ولكل منهما شاهدٌ واحد فإنه لا يثبت بذلك تحقق البيع وتردد المالك بين زيد وعمرو بدعوى توافق الشاهدين على هذا المدلول الالتزامي وهو البيع لأن اللازم ليس هو الجامع بل اللازم الحصة الخاصة المغايرة للحصة الأخرى يعني شهادة زيد بأنه باع الدار هذا يثبت تحقق البيع بالنسبة إلى زيد وشهادة عمرو بأنه باع الدار هذا يثبت البيع بالنسبة إلى عمرو ولا يثبت مطلق البيع وكلي البيع.

فإذا تكاذبا في أن البائع زيد أو عمرو لا يثبت أصل البيع ونقول أن البائع مردد بين زيد وعمرو فإذا سقط المدلول المطابقي سقط المدلول الالتزامي.

هذا تمام الكلام في اعتبار اتحاد الأوصاف واتضح أن الصور الأربع الأول لا تضر بصدق البينة بخلاف الصورة الخامسة وهي النحو الثاني من الصورة الرابعة فإنها تضر، وبالتالي اختلاف شهادة الشاهدين في الأوصاف يضر بذلك.

ومن هنا اتضح أن إطلاق عبارة صاحب العروة حينما قال: <لو أطلق أو وصف أحدهما وأطلق الآخر كفى>[7] هذا الإطلاق ليس بتام بل فيه تفصيل.

هذا تمام الكلام في اعتبار اتحاد الأوصاف.

قال صاحب العروة: <ولا يعتبر اتحادهما في زمان الرؤية>[8] يأتي عليه الكلام.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo