< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الفقه

44/09/17

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس الثاني عشر: حكم الحاكم نافذٌ ما لم يعلم خطاؤه ولا خطاء مستنده

 

قال السيد محمد كاظم اليزدي ـ رحمه الله ـ في العروة الوثقى:

<السادس حكم الحاكم الذي لم يعلم خطؤه ولا خطاء مستنده كما إذا استند إلى الشياع>[1] .

لا شكّ ولا ريب أن حكم الحاكم لا موضوعية له ولا يغير الواقع عما هو عليه وإنما هو طريقٌ لمعرفة وتشخيص الواقع، فإذا قطعنا بالواقع وقطعنا بأن حكم الحاكم على خلاف الواقع، فحينئذ تسقط حجية حكم الحاكم. فإذا كان الواقع قطعياً ومعلوماً لا معنى لجعل للدلالة عليه إذ أن الواقع معلومٌ ومحرزٌ بالوجدان فلا يحتاج إلى برهان، ولا معنى لجعل الحجية حينئذٍ.

ومن هنا إذا علمنا وقطعنا بأن حكم الحاكم مخالفٌ قطعاً للواقع فحينئذ يسقط حكم الحاكم عن الحجية.

ولقد أجاد وأفاد السيد محسن الحكيم[2] ـ رحمه الله ـ وذكر عدة صور، وسار على ذلك السيد أبو القاسم الخوئي[3] .

وأهم ما في بحثنا هو التفرقة في المستند وبين الخطأ في الاستناد.

الصورة الأولى الخطأ في المستند فقد يبني الفقيه والحاكم الشرعي على حجية البينة فيأتيه الشاهد الأول ويشهد، ثم يخرج الشاهد الأول ويغير ملابسه ويدخل مرة ثانية فيتوهم القاضي والحاكم الشرعي أنه شاهد آخر فيثبت الهلال بالبينة ظناً منه توفر شاهدين، والحال أنه يوجد شاهد واحد.

فهنا القاضي قد استند إلى البينة فهو لم يشتبه في الاستناد إذ أن القاضي في حكمه بالهلال قد استند إلى البينة لكنه قد أخطأ واشتبه في المستند والمستمسك فتوهم أن المستند هو البينة العادلة وتوفر شاهدين عادلين، والحال إن المستند شاهدٌ واحد قد غير ملابسه، ففي هذه الحالة لا يثبت الهلال لو كان خطأ الحاكم من جهة المستند.

والملاك في ذلك: أن الحاكم لو التفت لتراجع فالحاكم في مثالنا لو التفت إلى أن الشاهد واحدٌ قد غير ملابسه ولم يكن شاهدين فحينئذ سيقطع بعدم تحقق البينة ولن يحكم بثبوت الهلال فالحاكم إذا التفت إلى غفلته أو اشتباهه بالنسبة إلى المستند يتراجع عن الحكم.

هذا تمام الكلام في بيان الصورة الأولى الخطأ في المستند.

مثال آخر: لو كان الحاكم يرى أن الشياع المفيد للعلم هو الذي يثبت الهلال لا الشياع المفيد للظن وجاءه جمعٌ من الفساق لكنه لحسن سريرته ظنهم من العدول فهو في استناده قد استند إلى الشياع المفيد للعلم لا الشياع المفيد للظن لكن المستند والدليل والمستمسك هو شياع يفيد الظن للعلم لأن الشهود من الفساق وأوهموه بحسن ظاهرهم فتوهم عدالتهم وحكم بثبوت الهلال.

فحينئذ لا يثبت الهلال بحكم الحاكم لأن الحاكم لو التفت إلى فسقهم وأنه قد استعجل في الاطمئنان بعدالتهم لما حكم بالهلال.

الصورة الثانية الخطأ في الاستناد كما لو كان الحاكم الشرعي يبني على أن الشياع المفيد للظن حجة فضلاً عن الشياع المفيد للعلم والقطع كما هو مبنى الشهيد الثاني في المسالك والعلامة الحلي إذ قالا بأن الشياع المفيد للظن أقوى من البينة فالظن الحاصل من الشياع المفيد للظن أقوى من الظن الحاصل من البينة وقد قام الدليل على حجية البينة فتثبت حجية الشياع الظني بالفحوى ومن باب الأولوية.

ونحن لا نلتزم بذلك إذ أن هذه الأولوية ظنية وليست أولوية قطعية لكن لو بنى فقيهٌ وحاكمٌ شرعي على مبنى صاحب المسالك والعلامة الحلي، وقال بحجية الشياع الظني وحصل شياعٌ يفيد الظن فهنا الحاكم الشرعي لم يخطئ في المستند إذ أن المستند والدليل الذي استدل به ليس فيه اشتباه هو شياعٌ يفيد الظن وإنما أخطأ في الاستناد.

فبحسب اجتهاده الشياع المفيد للظن حجة وبحسب اجتهاد الحاكم الآخر الشياع المفيد للظن ليس بحجة.

مثال آخر: لو شهد شاهدان فاسقان عند الحاكم الشرعي والحاكم الشرعي يبني على حجية البينة فطلب الشهود وجاء شهودٌ عدول وشهدوا بشهادة تفيد عدالة الشاهدين الفاسقين.

فهنا قد تمت الحجة على الفقيه والحاكم الشرعي إذ قام شاهدان وثبتت عدالتهم بشهادة الشهود إلا أن الشهود العدول قد اشتبهوا في الشهادة بعدالة الشاهدين الفاسقين ثم حكم الحاكم الشرعي بثبوت الهلال استناداً إلى البينة ففي هذه الحالة الحاكم الشرعي استند إلى البينة واستند في إثبات البينة إلى ماذا؟ إلى شهادة الشهود العدول، لكن في الواقع هؤلاء الشهود كانوا من الفساق ولم يكونوا من العدول في هذه الحالة يثبت حكم الحاكم.

مثال ثالث: لو بنى الفقيه على حجية الرؤية بالعين المسلحة ولم يُرى الهلال بالعين المجردة وشهد عنده الشهود بالعين المسلحة بالتلسكوب مثلاً وحكم بثبوت الهلال ونحن لا نرى حجية الشهادة بالعين المسلحة ولا بدّ من الرؤية بالعين المجردة فهل حكم الحاكم الذي حكم وفقاً للرؤية بالعين المسلحة حجة في حقّ الفقيه الذي لا يرى الرؤية بالعين المسلحة ويشترط الرؤية بالعين المجردة أو لا؟

الجواب: حكمه حجة في حقّه.

والسر في ذلك:

أن شرائط الحجية قد توفرت بالنسبة إلى الحاكم فالحاكم بمقتضى اجتهاده قد استند إلى أمرٍ صحيح بنظره ففي المثال الثالث قد استند إلى الرؤية بالعين المسلحة وهي حجة بالنسبة إليه فهنا لا يوجد خطأ في الاستناد يوجد خطأ في الاستناد بالنسبة إلى رأينا بالنسبة إلى من يرى الرؤية بالعين المجردة يرى أن الاستناد خاطئ لكن بالنسبة إلى من حكم بثبوت الهلال بالعين المسلحة قد حكم مع توفر الشرائط المعتبرة في الحكم بالهلال فيكون حكمه صحيحاً ونافذاً حتى على من لا يرى مبناه.

وهكذا في المثال الثاني فالحاكم الشرعي يرى حجية البينة وفي تحصيل عدالة شهود البينة قد استند إلى البينات والشهود العدول فاستناده صحيح فتوفرت شرائط الحجية بالنسبة له فيكون حكمه نافذاً.

وهكذا في المثال الأول إذ هو يرى حجية الشياع الظني فيكون حكمه نافذاً حتى على من لا يرى حجية الشياع الظني ويشترط الشياع العلمي لأن هذا الحاكم حكمه حجة بنظره وقد توفرت شرائط الحجية بالنسبة له.

إن قلت: إذا المكلف لا يراه حجية الشياع الظني كان حكم الحاكم بنظره حكماً على خلاف حكم الأئمة ـ عليهم السلام ـ في نظر هذا المكلف أو المجتهد فلا يجب قبول كلامه ومجرد كون المجتهد معذوراً على طبق اجتهاده لا يلزم منه وجوب العمل على من يراه مخطئاً في اجتهاده ولا سيما أن هذا خلاف المرتكز في الحجج العقلائية.

يجيب السيد الحكيم[4] :

<قلت: لو تم هذا اقتضى عدم نفوذ حكم الحاكم على من يخالفه الرأي اجتهاداً أو تقليداً>.

وهذا ليس بصحيح فإنه في الفصل في المنازعات وفي الخصومات وعند حسم باب التداعي أحياناً يكون منشأ الاختلاف الاختلاف في الأحكام الكلية والقاضي يحكم بمقتضى اجتهاده لا بمقتضى اجتهاد أو تقليد المتخاصمين، فلو قضى القاضي وحكم القاضي بحكمين وفق نظره الشريف، وهو مخالف لنظر المجتهد لو كان أحد المترافعين مجتهداً أو لتقليد أحد المترافعين والمتداعيين، فهل يلتزم بأن حكم القاضي ليس نافذاً في حقّ المترافع الذي يختلف معه اجتهاداً أو تقليداً في المبنى الكلي؟

الجواب: حكم الحاكم نافذ، وهذا من الواضحات إذ أنه إن بنينا على عدم نفوذ حكم الحاكم المخالف في الرأي لزم أن يكون التداعي بلا حسم.

الجواب الثاني: لو رجعنا إلى مقبولة عمر بن حنظلة التي ذكرت أن النزاع كان في ميراثٍ أو دينٍ فإنه يظهر منها أن النزاع كان في الكلي لا الموضوع الخارجي، وهناك قرينة قوية تدل على ذلك وهو ما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة من الرجوع إلى القواعد قواعد التعارض عند اختلاف الحكمين وهذا من وظيفة المجتهد كما يظهر بها أقل تأمل.

<خذّ بما اشتهر بين أصحابك، قال: فإن كان كل منهما مشهور خذّ بما وافق كتاب الله ودعّ الشاذ النادر. قلت: فإن كان على كل منهما شاهدٌ من كتاب الله؟ قال: خذّ بما خالف العامة فإن الرشد في خلافهم> هذه قواعد باب التعارض الأخذ بما وافق الكتاب والأخذ بما خالف العامة والأخذ بما اشتهر بين الأصحاب هذه المرجحات الثلاثة تنسجم مع الحكم الكلي لا مع المنازعة الخارجية الجزئية.

إذاً عندنا صور:

الصورة الأولى أن نجزم ونقطع بخطأ الحاكم فهنا في هذه الحالة لا يكون حكمه حجة لأن حكم الحاكم ليس ملحوظاً في نظر الشارع الأقدس عنواناً مغيراً للأحكام وجوداً وعدماً بل حكم الحاكم طريقٌ كسائر الطرق وهو حجة على الواقع في ظرف الشكّ فيه، فإذا قطعناه بالواقع وعلمنا بالواقع انتفى موضوع الحجية لامتناع جعل الحجية على الواقع في ظرف العلم به سواء كانت الحجية مصيبة أو مخطئة هذه الصورة الأولى.

صور أربعة يذكرها السيد الحكيم في المستمسك[5] .

الصورة الثانية إذا علم تقصير الحاكم في مقدمات الحكم فهنا يسقط حكمه عن الحجية لأن تقصيره مسقطٌ له عن أهلية الحكم فلا يكون موضوعاً لوجوب القبول وحرمة الردّ فالحكم حينئذ يكون فاقداً لبعض الشرائط المعتبرة في الحكام.

الصورة الثالثة لو فقد حكم الحاكم بعض الشرائط غفلة لا تقصيراً كما في الصورة الثانية وإنما من باب الغفلة كما لو حكم تعويلاً على شهادة الفاسقين أو الفاسقين غفلةً عن كونهما كذلك أو غفلة عن اعتبار عدالة الشاهد، ففي هذه الحالة يسقط حكمه عن الحجية، هذا الصورة الثالثة.

الصورة الرابعة إذا كان الحكم جامعاً للشرائط المعتبرة بنظر الحاكم لكن كان الخطأ في المستند لا الاستناد فبذل الحاكم الشرعي الجهد في معرفة الحجج والاجتهاد الصحيح في إثباتها لكن كان الخطأ في بعض المبادئ.

هنا إذا كان الخطأ في المستند في هذه الحالة لا يكون حكم الحاكم حجة لأنه لو التفت إلى خطأ المستند لتراجع وتوقف.

الصورة الخامسة والأخيرة لو كان خطأ الحاكم في الاستناد كما لو كان يرى حجية البينة وشهد عنده شاهدان فاسقان واعتمد في ثبوت عدالتهما على البينة العادلة التي قد أخطأت في اعتقاد عدالتهما في هذه الحالة وجب العمل بحكمه لأنه حكم صحيح في نظر الحاكم فيدخل تحت موضوع وجوب القبول وحرمة الردّ وهكذا كل موردٍ كان فيه الخطأ من الحاكم في بعض المبادئ في الشبهات الموضوعية أو الشبهات الحكمية.

كما لو ادى اجتهاده إلى حجية الشياع الظني كما عن العلامة الحلي في التذكرة والشهيد الثاني في مسالك الأفهام لأن الظن الحاصل من الشياع الظني أقوى من الظن الحاصل من البينة.

فيدل الظن الحاصل من الشياع العلمي على حجية الشياع الظني بالفحوى والأولوية، في هذه الحالة يجب العمل بحكم الحاكم لدخول حكمه تحت دليل الحجية.

الخلاصة:

عموم الدليل المتقدم يقتضي وجوب العمل بكل حكمٍ إلا في حالة العلم بمخالفته للواقع أو صدوره عن تقصيرٍ في بعض المبادئ أو غفلةٍ توجب صدور حكمه على خلاف رأي الحاكم واجتهاده.

جيد الآن نرجع إلى قراءة كلام ونصّ صاحب العروة قال:

<حكم الحاكم الذي لم يعلم خطأه> هذا ناظر إلى الى العلم الوجداني بخطأ الحاكم حينئذ لا تثبت حجيته <ولا خطأ مستنده> هذا ناظر إلى الخطأ في المستند لا الاستناد.

ثم قال: <كما إذا استند إلى الشياع الظني> ظاهر هذا التمثيل <كما إذا استند إلى الشائع الظني> أنه مثالٌ للخطأ في المستند والحال إنه خطأ في الاستناد لا المستند كما إذا استند ولم يقل كما إذا كان المستند.

فقوله: <كما إذا استند إلى الشياع الظني> ظاهرٌ بحسب السياق في أنه مثال للخطأ في المستند والحال أن الاستناد إلى الشياع الظني إنما هو خطأ في الاستناد وليس بخطأ في المستند فتثبت الحجية لحكم الحاكم إذا أخطأ في الاستناد لأن شرائط الحجية متوفرة بحسب نظره وإن كان الاجتهاد خاطئاً بحسب نظر غيره.

نعم، لا يكون حكم الحاكم نافذاً فيما لو أخطأ في الدليل والمستند والمستمساك والله العالم.

هذا تمام الكلام في شرائط حكم الحاكم.

قال صاحب العروة ـ رحمه الله ـ :

<ولا يثبت بقول المنجمين>.

يأتي عليه الكلام.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo