< قائمة الدروس

بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

44/07/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الفقه المعاصر/ المسائل المستحدثة في الأطعمة و الأشربة/ تعارض الأدلّة

 

خلاصة الجلسة السابقة: کان البحث في الفقه المعاصر حول لحوم الخیل و البغال و الحمیر. قد وصلنا إلی البحث عن أنّه ماذا نفعل في حال تعارض الأدلّة؟ طائفة من الروایات جنب آیات القرآن تدلّ علی حصر المحرّمات في الدم و لحم الخنزیر و المیتة و ما أهلّ به لغیر الله. قال- تعالی: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ الْمَيتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.[1] هناك روایات أیضاً تؤیّد محتوی هذه الآیة بمناسبات مختلفة. یسأل عن الفرس و الحمار و قال الإمام المعصوم× إنّه مکروه لا حرام ثمّ استشهد× بهذه الآیة: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِي إِلَي مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يكُونَ مَيتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾.[2]

من جانب آخر هناك روایات تدلّ علی حرمة حیوانات أخر. فما ذا نفعل بالحصر القرآني؟ هذه الروایات قد حرّمت حیواناتٍ کالسباع و الحشرات و ... لم توجد في الحصر القرآني.

طریق حلّ المشکل للشیخ الطوسيّ&

قال الشیخ الطوسيّ& لحلّ المشکل: للحرام مراتب؛ الحرام المغلّظ الشدید و غیر المغلّظ. إلیك نصّ عبارته: «قوله× الحرام إلّا ما حرّم الله- تعالی- في كتابه. المعنى فيه أنّه ليس الحرام المخصوص المغلّظ الشديد الحظر إلّا ما ذكره الله- تعالى- في القرآن و إن كان فيما عداه أيضاً محرّمات كثيرة إلّا أنّه دونه في التغليظ».[3]

ثمّ أتی الشیخ الطوسيّ& لمدّعاه بدلیل: «و الذي يدلّ على ذلك ما رواه: الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ[4] عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ[5] عَنْ عَلِيٍّ[6] عَنْ أَبِي بَصِيرٍ[7] عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ× قَالَ: كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُؤْكَلَ مِنَ الدَّوَابِّ لَحْمُ‌ الْأَرْنَبِ وَ الضَّبِّ وَ الْخَيْلِ وَ الْبِغَالِ وَ لَيْسَ بِحَرَامٍ كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَ الدَّمِ وَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَ قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ| عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَ لَيْسَ بِالْوَحْشِيَّةِ بَأْسٌ».[8]

و فسّر الشیخ الطوسي& هذه الروایة بأنّ الإمام الصادق× قال: یکره من الحیوانات لحم الإرنب و الضبّ و الفرس و البغل و لیس محرّماً کحرمة المیتة و الدم و لحم الخنزیر (أي لم یکن محرّماً حرمةً شدیدةً بل حرمته في مرتبة أسفل) و نهی النبيّ| عن أکل لحم الحمار الأهليّ و لا بأس بالوحشيّ منه.

و یمکن أن تفسّر هذه الروایة بأنّ هذه الموارد مکروهة لا محرّمة؛ و المحرّمة هي المیتة و الدم و لحم الخنزیر. صریح الروایة أنّ هذه الموارد لیست بحرام حیث قال×: «و ليس بحرام».

هنا إشکالان علی شیخ الطائفة&:

الإشکال الأوّل: هذا الجمع لیس صحیحاً؛ إذ لا شاهد علیه. إن کان المراد أنّ الموارد المذکورة في القرآن هي المحرّمات المغلّظة الشدیدة فلیجب أن یذکر فیه أنّ هناك أیضاً محرّماتٍ خفیفةً و قد جعل الله- تعالی- المحرّمات محصورةً.

لفظة «یکره» في الروایة مشعر بأنّ هذه الموارد، مکروهة، لا محرّمات خفیفة.

یمکن أن یقال: إنّ «یکره» أستعمل مجازاً و هو بمعنی «یحرم» و لکنّا نقول: أ یحرم لحم الفرس و البغل في الواقع؟ و قد کانت لدینا روایات کثیرة علی حلّیّتها. تحلّ العامّة لحم الإرنب و نحن معاشر الشیعة نحرّمه و الضبّ هو الذي اتّفق الفریقان علی حرمته.

نعم یمکن أن یفسّر «یکره» بما یقبح و هو أعمّ من الحرام و المکروه. الإرنب و الضبّ محرّمان في الروایة و لکنّ الفرس و البغل مکروهان.

الإشکال الثاني: قد أستدلّ لحلّيّة الحمیر و الخیل و البغال بهذه الآیة؛ فالآیة دالّة علی حلّيّة هذه الحیوانات لا حرمتها. و الجمع الذي بیّنه الشیخ الطوسي& خلاف الروایات. کلّ ما خرج من الحصر فهو حلال.

جمع الشیخ الطوسيّ، تبرّعي؛ فلیس بحجّة. قد جاء في أکثر من واحد من الروایات أنّ الإمام× قال: الناس لا یعافون بعض الحیوانات و نحن أیضاً لا نعافها و لکنّها لیست بحرام.

قال المحقّق السبزواريّ&: «هذا التأويل لا يخلو عن بعد».[9]

قال العلّامة المجلسيّ&: «تأويل الشيخ في أكثرها في غاية البعد».[10]

قال الشوشتريّ&: «حمله أیضاً کما تری و کیف یصحّ هذا الحمل».[11]

برأینا أنّ کلام الشیخ الطوسي& مع أنّه معتنی به، لکنّه لیس مقبولاً. «یکره» یدلّ علی الکراهة، لا الحرمة الخفیفة.

طریق الجمع الثاني: الحمل علی التقیّة

قال کثیر من العلماء: یجب حمل الروایات الدالّة علی الحلّيّة، علی التقيّة؛ إذ من العامّة من قال بالحلّيّة و لکن مشهور فقهاء الشیعة قائلون بالحرمة. و حیث إنّ هذه الروایات موافقة للعامّة، فتحمل علی التقيّة؛ «یکره» موافق للعامّة و «یحرم» موافق للخاصّة.[12]

قال العلّامة المجلسيّ&: «و لعلّ الحمل على التقيّة أظهر».[13]

و قال أیضاً في موضع آخر: «و يمكن حمل هذه الأخبار على التقيّة، لاشتهار الحلّ في أكثرها بين العامّة و يؤيّد أخبار الحرمة الشهرة بين أصحابنا و ادّعاؤهم الإجماع على أكثرها و إلّا فمقتضى الجمع بين الأخبار القول بالكراهة في الأكثر و الاحتياط يقتضي متابعة القوم في ذلك[14] و إلّا فإثبات التحريم في أكثرها مشكل و تأويل الشيخ&[15] في أكثرها في غاية البعد».[16]

قال الشیخ الحرّ العامليّ&: «هذا يحتمل الحمل على التقيّة».[17]

و احتمل السیّد الطباطبائي& في الریاض التقيّة أیضاً و لکنّه تأمّل في انتهاء عبارته و هو مشعر بأنّ الحمل علی التقيّة لیس صحیحاً.[18]

و کذلك احتمل التقیّة فخر المحقّقین[19] و المحقّق الأردبیليّ[20] و الفاضل الهنديّ[21] و صاحب الجواهر[22] و السیّد السبزواري.[23]

هنا إشکالات ثلاثة علی هذا الجمع:

برأینا إنّ هذا الجمع لیس صحیحاً و لو احتمله کثیر من العلماء و لکن فیه إشکالات:

الإشکال الأوّل: قد حرّم هذه الحیوانات کثیر من العامّة؛ مثلاً: حرّموا السباع و الحشرات و لکن لم یجئ في القرآن أنّ السباع حرام و لکنّهم حرّموها. نحرّم بعض الحیوانات و هم یحلّونه و لکن لیس الأمر هکذا في سائر الحیوانات.

الإشکال الثاني: من العادة أنّ الإمام× کان حَکَمَ- في الروایات الصادرة تقيّةً- بحکم موافق للعامّة تقيّةً مع کونه ذا وجهین و لم یکن مصرّحاً به و لم یستدلّ له بالقرآن و لکن إذا کان قد حَکَمَ بحکم مخالف للخاصّة ثمّ استدلّ له، فلیس هو من التقيّة. و قد استدلّ الإمام× في روایات الأطعمة بالقرآن.

الإشکال الثالث: أنّ الحمل علی التقيّة هو طریق الجمع في الروایات و لا طریق للحمل علی التقيّة في القرآن فإذا حصّرت المحرّمات في القرآن بمقتضی قوله- تعالی: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِي إِلَي مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يكُونَ مَيتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾[24] فلا طریق لك في الحمل علی التقيّة.

 


[4] إماميّ ثقة جلیل القدر.
[5] واقفيّ ثقة علی التحقیق.
[6] عليّ بن أبي حمزة البطائني من رؤوس الواقفة لکن الظاهر أخذ المشایخ عنه قبل وقفه و هو إماميّ ثقة.
[7] إماميّ ثقة جلیل القدر من أصحاب الإجماع.
[11] النجعة في شرح اللمعة، المجلّد10، الصفحة189.
[14] إذ لا دلیل علی الحرمة.
[15] الحرام المغلظ و الحرام الخفیف.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo