< قائمة الدروس

التفسیر الأستاذ محسن الفقیهی

44/05/19

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: تفسیر القرآن الکریم /تفسیر سورة البقرة /آیة المأة و الثمان و الستّین

 

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ کُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ﴾[1]

یکون البحث في تفسیر آیة المأة و الثمان و الستّین من سورة البقرة المبارکة. یلزم الالتفات في تفسیر هذه الآیة إلی نکات:

النکتة الأولی:

قد عبّرت في بعض الآیات القرآن بـ ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا﴾ و في بعضها بـ ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾. ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا﴾ خطاب للمؤمنین و لکن ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ خطاب للناس کلّهم. إنّ في هذه الآیة تعبیر ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ و معناه أنّ الله قد اعتنی بالناس کلّهم و علی الناس کلّهم أن یلتفتوا إلی هذه النکتة؛ هذه النکتة عالميّة و عموميّة و لا تختصّ بالمؤمنین.

کان في زمن الرسول| بعض الخرافات و هو أنّ بعض الأفراد کان یحرّم بعض الحیوانات و لا یجوّزون أکله. قد أراد الرسول| بسبب هذه الآیة الذي أنزلها الله- تعالی- أن تترك هذه الخرافات. تمتّعوا من کلّ شيء ﴿کُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً﴾ کلّ ما في الأرض حلال و یجب أن یتمتّع منه الناس و أن تترك هذه الخرافات، کلّ ما في الأرض فهو لك حلال. فهذه الآیة موجّهة إلی جمیع الناس و یجب أن یتمتّع الناس من کلّ ما في الأرض، و هو لا یختصّ بالمؤمنین فلیتمتّع الکفّار و المشرکون و الفاسقون ممّا في الأرض.

النکتة الثانیة:

معنی ﴿کُلُوا﴾:

﴿يااَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لاتَأكُلوا اَموالَكُم بَينَكُم بِالباطِلِ اِلّا اَن تَكونَ تِجارَةً عَن تَراضٍ مِنكُم﴾[2] ما معنی ﴿لا تَأكُلوا﴾ و هل یکون مَن غصب بیت الغیر مصداقاً لهذه الآیة أم لا؟ المراد من الأکل بشکل عامّ، التصرّفات؛ یعبّر من مطلق التصرّف بالأکل، إذ الأکل نموذج بیّن من التصرّف. من التصرّفات، الأکل. لا یجوز شرب الماء المغصوب و الجلوس أو السکنی في الأرض المغصوبة و کلّ هذه الأمور تصرّف لکن نموذجه البیّن هو الأکل. کلّ شيء یُعامَل به فهو قابل للتصرّف. فکما یفهم معنی ﴿لا تَأكُلوا﴾ یفهم ﴿کُلُوا﴾ بهذا الشکل؛ أي یصیر معنی الآیة هکذا: تصرّفوا فيما في الأرض، تمتّعوا من السکنی و الماء و الطعام و الحیوانات. ﴿خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً﴾[3] کلّ ما في الأرض تحت یدك. فالمراد من کلمة الأکل في الآیة، مطلق التصرّفات و لا یختصّ بالأکل.

النکتة الثالثة:

ثمّ إنّه من یقول- مع الرغم من وجود هذه الآیة- إنّي لا أتمتّع ممّا في الأرض فإنّه یمشي في طریق الشیطان فلذا قال الله- تعالی: ﴿وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾. وجب التمتّع من مظاهر الطبیعة، کلّ ما في الأرض فهو لکم و یجب التمتّع منه أفضل التمتّع و كلّ صورة من صور ترك نعمات الدنیا فهو من خطوات الشیطان. لا تظنّ أنّك إن ترکت مسیر المادّیّات وصلت إلی المعنویّة. لا تکون المعنویّة أن تجتنب الحلال بل یجب التمتّع من الحلال و الاجتناب من الحرام.

من الطرق التي استخدمها الشیطان لاغترار الإنسان، هو أن یمنع من التمتّع من مظاهر الدنیا؛ فلذا تجب المراقبة حتّی لا نختدع بخدعة الشیطان. الطریق الإلهيّ هو أن تتمتّع ممّا یُعطی لك.

النکتة الرابعة:

کلّ ما في الأرض فهو حلال. الحرمة تحتاج إلی الدلیل و الحلیّة لا تحتاج إلیه ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصَابُ وَ الْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾[4] هذا دلیل و لکن إذا لم یكن لدیك دلیل فکلّ شيء حلال. «كُلُّ شَيْ‌ءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتّى‌ تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَام‌»[5] فهذه النکتة تستفاد من هذه الآیة.

النکتة الخامسة:

﴿کُلُوا﴾ صیغة أمر. هل تدلّ هذه الصیغة علی الوجوب أو الاستحباب أو الجواز؟ یبدو إلی النظر أنّها تدلّ علی الرجحان. قلنا في بحث صیغة الأمر أنّها تدلّ علی مطلق الرجحان، رجحاناً أعمّ من الوجوب و الاستحباب. قد یجب الأکل، الأکل واجب علی الجائع، قد یجب الشرب علی الإنسان، قد یجب السکنی علی الإنسان و قد یکون حسناً و مستحبّاً مثل أن یکون للإنسان منزل واسع، له فرس أو سیّارة جیّدة. فلا ینبغي أن نجعل معنی ﴿کُلُوا﴾ الجواز کما جعله بعض المفسّرین، بل معناه الرجحان. إنّ في تصرّف کلّ ما في الأرض رجحاناً و أتُوا بالواجبات و المستحبّات أیضاً.

النکتة السادسة:

﴿کُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً﴾ کلّ ما في الأرض قابل التصرّف و نفس الأرض أیضاً قابلة التصرّف و حلال طیّبة. الحلال علی صورتین: بعض الحلال قد ینفرّ منه الإنسان، إفترض بول بعض الحیوانات بالرغم من أنّه حلال و لا یکون نجساً و یحلّ أکله و لکنّ الإنسان متنفّر منه. ﴿حَلالاً طَيِّباً﴾ أي انظروا کون الحلال طیّباً بمعنی أن یکون نقیّاً نظیفاً من حیث العقل و الطبیعة. فـ﴿حَلالاً طَيِّباً﴾ قید؛ أي لا تأکلوا کلّ حلال. الحلال الطیّب أي یکون نظیفاً أیضاً بعد کونه حلالاً. إفترض أنّ بول واحد من الحیوانات حلال و لکنّه لیس نظیفاً.

«مِنْ» في ﴿کُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ تبعیضیّة؛ أي ليست الأرض و کلّ ما فیها حلالاً، بل بعض الأشیاء حلال و بعض ما في الأرض حرام أیضاً. الکلب و الخنزیر و الخمر و ... حرام.

النکتة السابعة:

الحلّیّة نوعان: واحدة منها مربوطة بالأکل و الأخری بالمأکول. توضیحه: أنّه یوجد في شهر رمضان أنواع من أطعمة الحلال بین أیدیك و لکنّك لا تأکله، فإنّ هناك حرمة الأکل. کلّ الطعام یکون حلالاً و لکنّك لا تأکل. قد تکون الحرمة مربوطةً بالمأکول؛ مثل أن أقول هذا خمر و لا یجوز أن تشربه أو یکون لحم الغنم حلال فهذه حلّیّة المأکول. ﴿حَلالاً طَيِّباً﴾ فهي حلّیّة المأکول.

النکتة الثامنة:

الطریق الإلهيّ المستقیم واحد و لکن خطوات الشیطان متعدّدة. یرد من کلّ طریق حتّی یجرّ الإنسان إلی الانحراف. لا یکون الطریق طریقاً واحداً، ینحرف بعض بالمال و بعض بالمقام و بعض بالشهوات و بعض بالطرق المختلفة الأخری. لا یغرّ الشیطانُ العالمَ بالخمر بل یغرّه بالمقام و یغرّ شخصاً بالمال و یُزیغه. ﴿خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ أي یرد الشیطان من الطرق المختلفة و یزیغ الإنسان.

النکتة التاسعة:

یجب الالتفات إلی أنّ التمتّع من الحلال یُعتِد خلفیّة عبودیّتك أکثر، لا أن یقول إنسان إنّي في معزل من الناس و لا أتمتّع من حلال الله و لا أکل الطعام و لا أشرب الماء و لا أنکح و لا أرید المسکن، لا تظنّ أنّ هذه التفکّرات تقرّبك إلی الله- تعالی- بل یوجب الزیغ. و إذا تمتّعت من حلال الله فأنت تستطیع من التقرّب إلی الله أکثر فلذا تقول: «من لا معاش له لا معاد له» علیکم بالمعاش حتّی تقدرون علی المعاد؛ أي إذا ضاع معاش أحد ضاع معاده أیضاً. فلذا نقول اعتنوا باقتصاد الناس. و یمکن أن یستفاد هذا المطلب من هذه الآیة.

النکتة العاشرة:

الشیطان یُزیغ الإنسان خطوةً خطوةً، لا تَزیغ دفعةً واحدةً بل الشیطان یُزیغ الإنسان شيئاً فشيئاً. یقول أوّلاً أن استمع الموسیقيّ ثمّ الغنا ثمّ الآلات الموسیقیّة ثمّ الشهوات ثمّ الانحرافات الأخری؛ هذا هو المراد من ﴿خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾؛ أي یمکن أن یجرّك إلی الانحراف شيئاً فشيئاً.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo