< قائمة الدروس

التفسیر الأستاذ محسن الفقیهی

45/02/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: تفسیر القرآن الکریم/ تفسیر سورة البقرة/ الآیة الثالثة

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ[1] وَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾[2]

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ؛ أي إنّ المتّقین هم الذین یؤمنون بالغیب.

ما معنی «الغیب»؟

هل یقال لما لا یُدرك بالحواسّ الخمسة الغیب؟ من مصادیق ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ الإیمان بالله و برسوله (صلّی‌الله‌علیه‌وآله)، هل الله- تعالی- من مصادیق الغیب؟ مع أنّه قال- تعالی: ﴿وَ مَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾[3] بل کنّا حاضرین و ناظرین علی أعمال العباد!

ثمّ إنّ ما یلزم في رأس اعتقادات المؤمن التقيّ، إیمانه بالله- تعالی- و المتقيّ من یؤمن بالله. من المقطوع أنّ الإيمان بالغيب يشمل الله- تعالی- فکیف یُخرَّج قوله ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾؟ فهل معنى الغيب هو ما لا تدركه الحواسّ الخمسة أم أنّه شيء لا يُفهم معناه؟ و من الممكن أن يدرك الإنسان شیئاً لا يمكن فهمه بالحواسّ الخمسة. علی سبیل المثال: نحن نفهم أنّ الله موجود و لكن لا نستطيع أن ندرکه بالحواسّ الخمسة، فهل هذا يسمّى غيباً أم شهوداً؟ هل ما نفهمه شاهد و حاضر؟ فهل معنى الشاهد و الحاضر واحد؟ تقول الآية: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ و الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْبَاطِنُ﴾[4] إذا كان الله- تعالی- ظاهراً فهل معناه أنّه حاضر؟ الحاضر مقابل الغائب. لأيّ شيء یقال هو غائب؟ هل یقال للشيء الذي يكون حاضراً في حین و غائباً في آخر، إنّه غائب؟ أم إنّ الشيء الذي يغيب دائماً فهو غائب أيضاً؟ هذه هي النکات التي یجب الالتفات إلیها.

هناك رأيان في معنى «الغيب»:

1) نسبيّة الغيب

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾؛ المتّقون هم الذين يؤمنون بالغيب. ما هو المبرّر للقول بأنّ الإيمان بالله هو الإيمان بالغيب؟ بينما أنّ الله ظاهر و حاضر. فكيف یمکن تفسير هذه الآية؟

لعلّ إحدى الطرق هي أن يكون الإنسان كافراً و يريد أن يؤمن في اليوم الأوّل فإنّ الله غائب عن هذا الشخص؛ أي إنّه لا يعرف الله. إفترض أنّ شخصاً جاهلاً لا یکون معتقداً بأيّ شيء و تريد أن ترشده إلى الصراط المستقیم. تخبره بأشياء عن الله- تعالی- من أنّ هناك إلهاً موجوداً و تقدّم الأدلّة و البراهين و ما إلى ذلك و لكن هذا الشخص لم ير الله و لا يعرفه و لا یدرکه بحواسّه الخمسة، لكنّك تخبره الأشياء لعلّه- إن شاء الله- سيؤمن. بعد مرور بعض الوقت، عندما تمّ تبادل الأحاديث و صدّق هو قولك و آمن، فهو حیئئذٍ من ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ فالغيب إذاً أمر نسبي.

توضیح ذلك: على سبيل المثال أنا صديقك الآن و تطلب منّي التوقيع على رسالتك و أنت تريد أن تصبح قاضياً أو ممثِّلاً للطلّاب، أعرفك منذ عدّة سنوات و أعلم أنّك طالب فاضل و أنت تحضر الدروس بانتظام و لديك البحث و التحقیق، لكن ليس لديّ بعض الاطّلاعات منك. لا أعرف شيئاً عن سلوكك و صفاتك الأخلاقيّة في المنزل و... لكن عندما أتیتني برسالة، أوقّعها بنيّة أنّه عادل و مقبول- إن شاء الله. أوقّع أنّه يمكن إعطاؤه الفلوس الشرعیّة و الأمور الحسبیّة.

أنت حاضر كلّ يوم و أراك كلّ يوم، لكن أنت غائب عنّا؛ أي إنّ حضورك جسديّ و لا أعرف عن صفاتك الأخلاقيّة ما یکفي، هذا غيب. فالغيب نسبيّ؛ أي أنّه كلّما ازدادت علاقاتي بك و معرفتي و معلوماتي منك فقد صار حضورك عندي أقوی و قلّت غیبتك عنّي و كلّما زاد البعد فقد قلّت معرفتي و معلوماتي منك؛ مثلاً سافرتَ و لم أزرك منذ فترة و لا أعرف ماذا تفعل.

الآن لمـّا أردتُ أن أعرف الله- تعالی- فقد تمكّنت من معرفة الله إلى حدّما و فهمت أنّ هناك إلهاً و لكن هل هو الرزّاق؟ يقال إنّه رزّاق و سمعت أيضاً أنّه الرزّاق و لكن هل الله هو الرزّاق حقّاً؟ لقد سمعت أنّ الله حلیم و لكن هل الله حلیم حقّاً؟ لقد سمعت أنّ الله رحمن و رحیم و لكن هل الله رحمن و رحیم حقّاً؟ هل شعرتُ هذا بنفسي و وصلت إلى هذا المطلب من نفسي و قلبي؟ إذا وصلت إلی هذا المطلب فقد وُجد لي الحضور و إلّا فهي الغیبة.

يقال عن بعض إنّ فلاناً- علی سبیل المثال- سخيّ جدّاً و لكنّنا لم نر منه شيئاً لا طعاماً و لا عطاءاً. هذه هي الغیبة و لكنّ الحضور هو المعرفة و العلم. إذا كنتُ قد عرفت الله و صفاته و أسمائه و أدرکته فالله حاضر لديّ و إلّا فهذا لعق علی اللسان. إنّ قول الإمام الراحل (رحمه‌الله) «إنّ الله حاضر ناظر» یجب أن یُدرك و لا یکون قوله لعقاً علی لسانه. إنّ الله غائب عنّا إلّا إذا فهمنا و أدرکنا أسماء الله و صفاته بقلوبنا و أرواحنا و اكتسبنا المعرفة فإنّ الله حینئذٍ حاضر لنا و غير غائب. عندما تُدرِك أنّ الله رحمن رحیم عادل رزّاق و ... فقد أدرکتَ الله- تعالی- الذي قال ﴿وَ مَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ و لا یزال هو- تعالی- معكم کما قال: ﴿نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[5] نَحْنُ أَقْرَبُ لمن أدرك و لکن لمن لا یدرك فالله غائب عنه.

2) عدم رؤية الله لشدّة نوره

قال بعض في قوله ﴿وَ مَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾[6] : إنّك إذا نظرت إلی الشمس فقد بهرت شدّة النور عینیك فإذاً لا تسطیع النظر إلیها. الآن فإذا زاد ضوء الشمس مأة مرّة، فلن تتمكّن من رؤية الشمس مطلقاً، أي عندما اشتدّت النورانیّة فلیست الشمس قابلة الرؤیة. مطلق النور هو الله و نورانیّة الشمس و القمر و النجوم من الله، کما قال- تعالی: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[7] إذا كان النور قويّاً جدّاً لا نستطيع رؤيته. لذلك قال بعض في تبرير قوله ﴿وَ مَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾: لمـّا قال ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فإذاً لم نتمکّن من رویته بالبصر لشدّة نورانیّته؛ فهذا معنی أنّ الله غائب عنّا و إلّا فقد کان الله حاضر دائماً و نحن بمحضره.

برأینا أنّ «الغیب» أمر نسبيّ و منوط بقدر معرفة أيّ شخص؛ فعلیه من کانت معرفته بالله أکثر فحضور الله له أکثر و یفهم في بعض الموارد أنّه لا یعلم أشیاء کثیرةً بالنسبة إلی الله فإذاً لا یدرك أسماء الله و صفاته و أسمائه، فصفاته کانت له غیبةً.

للمتّقین مراتب، منها: أن یؤمنوا بالغیب و لا یکفي هذا بل یجب أن یکونوا ممّن قال فیهم إنّهم ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾؛ أي یجب أن یخطوا هذه الخطوات حتّی یصلوا إلی درجة التقی. و أمّا بالنسبة إلی الله فبقدر إدراکنا من الله یمکن أن نقول إنّ الله غائب عنّا و أن نقول هو حاضر و هذا أمر نسبي. إن وصل المتّقون إلی أعلی درجات المعنویّة فإنّهم لن یستطیعوا أن یدرکوا الله تماماً و یتمکنّون من معرفة بعض صفات الله و أسمائه و لن یستطیعوا أیضاً في هذه المرحلة علی أن یدرکوا باطن أسمائه و صفاته.

الأشياء التي لا ندرکها بحواسّنا الخمسة؛ مثل القبر و القيامة و الجنّة و جهنّم و المعاد و الحشر و خصائصها و زمان ظهور الحجّة (عجّل‌الله‌تعالی‌فرجه‌الشریف) و کیفیّته فهي غائبة عنّا. و الله- تعالی- أحد مصادیق الجلیّة للغیب. و الروایات الواردة في هذه الموارد قد ذکرتْ واحداً من مصادیق الغیب.


[1] أي: ما یحجب عن الحسّ و یخفی علیه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo