< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

43/03/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: فصل: البَداء.

     كلام السيد الخوئي (ره) في البداء.

     البداء يقع في القسم الأخير دون الأولين.

مبحث البَداء:

قلنا ان مسألة البداء اكتسبت أهميتها من اتخاذها ذريعة للهجوم على اتباع أهل البيت (ع)، والتسمية جاءت من الروايات لذلك التزموا بكلمة " البداء " وكذلك التزموا بكلمة " النسخ " التي وردت في القرآن الكريم ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [1] وهذا هو الصحيح، لأنه عندما يعبّر القرآن او الروايات المفروض ان نلتزم بالتعبير، لأننا نحن قد تكون عندنا تحليلات واستظهارات خاطئة، ولذلك في مسألة ترجمة القرآن اشكلوا ان المترجم يترجمه على ما يراه، وقد يكون قاصرا في الرؤية والفهم، لكن الترجمة من باب التقريب لا بأس بها.

لكن لا بد من الكلام عن البداء لان اعداء اهل البيت (ع) البسوا البداء ثوبا قبيحا ونسبوا الجهل إلى الله تعالى واتهمونا به.

يقول السيد الخوئي (ره) صاحب البيان الواضح والجميل في مباحث علم الأصول، يقول في المحاضرات:

قد التزم الشيعة بالبداء في التكوينيات وخالف في ذلك العامة وقالوا باستحالة البداء فيها لاستلزامه الجهل على الحكيم تعالى، ومن هنا نسبوا إلى الشيعة ما هم براء منه وهو تجويز الجهل عليه تعالى باعتبار التزامهم بالبداء.

ولكن من الواضح انهم لم يحسنوا في الفهم ما هو مراد الشيعة من البداء ولم يتأملوا في كلماتهم حول هذا الموضوع وإلا لم ينسبوا إليهم هذا الافتراء الصريح والكذب البيّن، وممن نسب ذلك إلى الشيعة الفخر الرازي في تفسيره الكبير عند تفسير قوله تعالى: " بمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " قال: قالت: الرافضة البَداء جائز على الله تعالى وهو ان يعتقد شيئا ثم يظهر له ان الامر بخلاف ما اعتقده ).

وهذا كما ترى كذب صريح على الشيعة، وكيف كان فلا يلزم من الالتزام بالبداء الجهل عليه تعالى كيف فان الشيعة ملتزمون به، فمع ذلك يقولون باستحالة الجهل [2] عليه سبحانه وتعالى.

وقد ورد في بعض الروايات ان من زعم أن الله عز وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه [3] ، وفي بعضها الآخر فأما من قال بالله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد. وقد اتفقت كلمة الشيعة الإمامية على أن الله تعالى لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق بشتى أنواعه بمقتضى الحكم العقل الفطري وطبقا للكتاب والسنة.

بيان ذلك أنه لا شبهة في أن العالم بشتى ألوانه واشكاله تحت قدرة الله تعالى وسلطانه المطلق، وان وجود أي ممكن من الممكنات فيه منوط بمشيئته تعالى وأعمال قدرته فان شاء أو جده وان لم يشاء لم يوجده، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ان الله سبحانه عالم بالأشياء بشتى أنواعها وأشكالها منذ الأزل وان لها بجميع أشكالها تعيينا علميا في علم الله الأزلي ويعبر عن هذا التعيين بتقدير الله مرة وبقضائه مرة أخرى.

ومن ناحية ثالثة أن علمه تعالى بالأشياء منذ الأزل لا يوجب سلب قدرة الله تعالى واختياره عنها، ضرورة أن حقيقة العلم بشيء الكشف عنه على واقعه الموضوعي من دون أن يوجب حدوث شيء فيه، فالعلم الأزلي بالأشياء هو كشفها لديه تعالى على واقعها من الإناطة بمشيئة الله واختياره فلا يزيد انكشاف الشيء على واقع ذلك الشيء، وقد فصلنا الحديث من هذه الناحية في مبحث الجبر والتفويض بشكل موس

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث [4] هي أن معني تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها ان الأشياء بجميع ضروبها كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أن وجودها معلّق على أن تتعلق المشيئة الإلهية بها حسب اقتضاء الحكم والمصالح التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر بطلان ما ذهب إليه اليهود من أن قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال ان تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه، ومن هنا قالوا ان يد الله مغلولة عن القبض والبسط والاخذ والاعطاء، ووجه الظهور ما عرفت من أن قلم التقدير والقضاء لا يزاحم قدرة الله تعالى على الأشياء حين ايجادها حيث إنه تعلق بها على واقعها الموضوعي من الإناطة بالمشيئة والاختيار فكيف ينافيها. ومن الغريب جدا أنهم (لعنهم الله) التزموا بسلب القدرة عن الله ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد مع أن الملاك في كليهما واحد - وهو العلم الأزلي - فإنه كما تعلق بأفعاله تعالى كذلك تعلق بأفعال العبيد.

فالنتيجة انهم التزموا بحفظ القدرة لأنفسهم وان قلم التقدير والقضاء لا ينافيها وسلب القدرة عن الله تعالى وان قلم التقدير والقضاء ينافيها، وهذا كما ترى.

وبعد ذلك نقول: إن المستفاد من نصوص الباب ان القضاء الإلهي على ثلاثة أنواع.

الأول: قضائه تعالى الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه حتى نبينا محمد (ص) وهو العلم المخزون الذي استأثر به لنفسه المعبر عنه باللوح المحفوظ تارة وبأم الكتاب تارة أخرى ، ولا ريب ان البداء يستحيل أن يقع فيه ،كيف يتصور فيه البداء وان الله سبحانه عالم بجميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء؟! ومن هنا قد ورد في روايات كثيرة ان البَداء إنما ينشأ من هذا العلم لا انه يقع فيه.

منها: ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن بن محمد النوالي ان الرضا ( ع ) قال لسليمان المروزي رويتُ عن أبي عن أبي عبد الله ( ع ) أنه قال ( ان لله عز وجل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه الا هو من ذلك يكون البداء وعلما علمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه ). [5]

من حيث السند: الرواية مرسلة لان النوفلي يقول حدثني من سمع عن الرضا (ع).

ومنها: ما عن بصائر الدرجات بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال ( ان الله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البَداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبيائه ونحن نعلمه ). [6]

من حيث السند: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ (ثقة) عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ (ثقة) أَوْ عَمَّنْ رَوَاهُ (مردد بين ابن ابي عمير وغيره) عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ وَوَهْبٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ. ومع التردد يسقط السند.

القسم الثاني: قضاء الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سوف يقع حتما ولا شبهة في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء، ضرورة ان الله تعالى لا يكذب نفسه ورسله وملائكته وأوليائه فلا فرق بينه وبين القسم الأول من هذه الناحية. نعم يفترق عنه من ناحية أخرى وهي ان هذا القسم لا ينشأ منه البداء دون القسم الأول. وتدل على ذلك عدة روايات.

منها: قوله ( ع ) في الرواية المتقدمة عن الصدوق ان عليا ( ع ) كان يقول " العلم علمان فعلم علمه الله ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما بشاء ويثبت ما يشاء ". [7]

ومنها: ما روى العياشي (مرسلا) عن الفضيل (بن يسار) قال سمت أبا جعفر ( ع ) يقول: ( من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا - يعني الموقوفة - فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته. [8]

 


[2] نسبة الجهل إلى الله محال وليست امرا قبيحا، اما النسخ مع بقاء المصلحة فقبيح، وجعل الحكم من دون مصلحة قبيح ويمكن تصوّره، وعلى الحكيم جائز. وكما قلنا امس في البداء ان العلم ثلاثة: الاول: علم مكنون لا يعلمه إلا الله عز وجل ولم يطلع عليه احدا من خلقه، الثاني: علم اطلع عليه بعض خلقه ولا يتغيّر، وهذان لا بداء فيهما، الثالث: علم عبارة عن القضايا الشرطيّة وهذا الذي يقع فيه البداء.
[3] الفرق بين البراءة واللعن والسب: اللعن عبارة عن ابعاد، اما البراءة هو ازالة كل شيء. وفي بعض الروايات قال امير المؤمنين علي (ع) " ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة ". اما السب هو الشتم وغيره.
[4] القدرة المطلقة، والعلم المطلق، والمشيئة المطلقة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo