< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

43/03/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: فصل: البَداء.

     الكلام في البداء من حيث المنقول.

     البداء من حيث المعقول.

     في الثمرة وانها تعظيم لله سبحانه من حيث سلطته على الكون حدوثا وبقاء، ومن حيث حثّ العبد على العمل في طاعة الله والتضرّع إليه لتغيير ما في قلم التقدير، وإلا لماذا كان الدعاء؟!

     البداء تطبيق للقوانين الإلهية.

     الفرق بين النسخ والتخصيص والبداء.

 

سنعود للكلام عن البداء في ثلاثة أمور:

من حيث الروايات والنصوص – النقل -، ومن حيث العقل، ومن حيث الثمرة من القول بالبداء.

الامر الأول: من حيث المنقول، أي النصوص والروايات سواء كانت قرآنية أو روائية:

فعلم الله على ثلاثة اقسام:

     علم مخزون مكنون ولم يطلع عليه أحدا من خلقه لا يقع فيه البداء.

     وعلم لا يتغيّر قد اطلع عليه بعض خلقه، وهذا أيضا لا يقع فيه البداء.

     وعلم بالقضايا الشرطية والملازمات، وهذا الذي يقع فيه البداء، وهذا ليس جهلا من الله تعالى ولا قبحا منه.

مثلا: إذا أخبر الله تعالى نبيه بأن فلان سيموت في الوقت الفلاني بميتة سوء، وأخبره أيضا أن الصدقة تدفع ميتة السوء، فإذا تصدّق الرجل، فإن الصدقة حينئذ منسأة في أجله فهل يكون إخبار النبي (ص) بموته إخبارا كاذبا، وهل يكون تأجيل موته تكذيبا لعلم الله تعالى وتكذيبا لرسوله (ص)؟

بالتأكيد لا، لأن الإخبار بالموت إخبار بمعلّق، وليس إخبارا جازما بعدم حصول الشرط المعلّق عليه، أي ليس إخبارا بعدم حصول الصدقة، فإذا حصلت الصدقة وتأجل الموت كان إخباره إبداء لما هو واقع.

الامر الثاني: من جهة العقل والمنطق والواقع:

فالأمور في علم الله تعلى على قسمين:

قسم مطلق لا يتغيّر، وهذا لا يقع في البداء.

وقسم معلّق على مشيئة الله تعالى، أي على قوانينه، فهو كما بيّنا لا مانع منه عقلا، إذ لا يلزم منه أمر قبيح ولا أمر محال.

الامر الثالث: الثمرة من القول بالبداء:

     من هذا البيان بالتقسيم نقلا وعقلا يتبيّن ان القول بالبداء هو تعظيم الله تعالى حيث أنه اعتراف صريح بأن العالم بأكمله تحت سلطان الله وقدرته حدوثا وبقاء، أي أنه يستطيع تغيير ما جرى عليه قلم التقدير، وان مشيئة الله نافذة في جميع الأشياء، وأنها بشتى الوانها بإعمال قدرته واختياره، وإلا قلنا كما قال اليهود: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [1] او كبعض فلاسفة اليونان " وكأن الله خلق الكون واعتزل جانبا " [2] .

     إن القول بالبداء يوجب توجه العبد إلى الله تعالى، وتضرعه إليه وطلبه إجابة دعائه وقضاء حوائجه ومهماته وتوفيقه للطاعة وابعاده عن المعصية، فيجتهد بالدعاء ليرد القضاء عنه، وإلا فما معنى الدعاء؟ [3] وقد ورد الحث عليه في القرآن الكريم ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [4] وكذلك في السنّة.

وعدم القول بالبداء بهذا المعنى يؤدي إلى يأس من روح الله وإلى انتشار المعاصي بشكل واسع، وذكرنا ان تقدير الله معلّق على مشيئته وقلنا ان معنى المشيئة القوانين لا بمعنى الإرادة الفعليّة والله العالم.

الامر الرابع: ظهر لنا أن البداء تطبيق للقوانين الإلهيّة، وإظهار هذا التطبيق بعد حدوث الشرط، ولذا فهو إبداء للقوانين والكليّات الربانيّة. واما إطلاق لفظ البداء على هذا التطبيق فهو مبني على التنزيل أي التشبيه، ومشاكلته في الظاهر لما عند المولى البشري، أي ان بيان الحكم من قبل الله بعد حصول الشرط يشبه بيانه عند المولى البشري.

نعم نحن نلتزم بما ورد في الروايات وهو لفظ البداء، لان المعصوم (ع) عندما يستعمل لفظا، نعلم إن في هذا اللفظ معان أخرى قد تدركها الأجيال اللاحقة لان العلم يتطوّر، مثلا في اعجاز القرآن ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [5] اختلفت فيها التفاسير وتبيين في زماننا معنى لم يكن موجودا ولعلّه المعنى الحقيقي، وهو ان الرياح تحمل اللقاح من مكان إلى آخر.

ولذلك بقي الاصوليون على استخدام كلمة النسخ لم يغيّروها إلى كلمة إزالة أو تبديل، وذلك لورودها في نصّ القرآن الكريم.

الامر الخامس: الفرق بين النسخ والبداء:

يشتركان في تغيّر الحكم أو الواقع، ويفترقان في أن النسخ إزالة للحكم لتغيّر المصالح بحسب الأزمنة، والاحكام تتبع المصالح والمفاسد.

واما البداء فهو تطبيق للقضايا التي فيها تعليق بعد حصول شرطها من دون أن تتغيّر هذه القضايا، نعم بعد تحقق الشرط يتغيّر الحكم او الواقع. وقلنا ان الملازمات لا تحتاج في صدقها إلى صدق المقدّم، نعم فعليتها تحتاج إلى صدق المقدّم، مثلا: القضيّة " إذا غلى الماء تبخر " قد لا يوجد الماء وغليانه أساسا، هل معنى ان هذه القضيّة كاذبة؟ بعبارة أخرى: لا يتوقف صدق القضية الشرطيّة على ثبوت المقدّم، بل على صدق الملازمة، نعم فعليتها ووجودها الخارجي وانطباقها في الخارج يتوقف على ثبوت المقدّم خارجا.

إلى هنا نكون قد انتهينا من أبواب مباحث العام والخاص الذي هو من أكبر المطالب الاصوليّة واعقدها، غدا ان شاء الله سنلخّص كل ما ذكرناه في هذه المباحث.

 


[2] والاشاعرة كانوا يقولون ان الأفعال يفعلها العبد ويخلقها الله عز وجل، فيصبح ان أفعال العبد إذا كانت قبيحة تصدر عنه تعالى، وذلك في مقابل الدفاع عن صدور القبيح من الله. وقول فلاسفة اليونان باختراع العقول: العقل الأول يفيض عنه الفلك الأول، والعقل الثاني يفيض عنه الفلك الثاني، إلى العقول العشرة التي تبناها الفارابي ثم تبناها ابن سينا، ثم العقل الفعال الذي خلق الكون. هذه الفلسفة انتقضها بعد ذلك الفلاسفة الأوروبيين، وكان هناك تيار واسع في أوروبا اسمه السينائيون أي الذين يؤمنون بنظريات ابن سينا. ويقولون ان جامعة السوربون في فرنسا أسست أساسا لمواجهة فلسفة ابن رشد والتيار السينائي.
[3] اما حديث " السعيد في بطن امه والشقي شقي في بطن امه " وتفسير الحديث بان الشقي شقي في عالم الجينات والاقتضاء، فإذا كانت جيناته الوراثيّة قويّة حينئذ يكون هناك مقتض للعمل، وهذا معنى السعيد وليس بمعنى سلب القدرة عنه، فالشقي في بطن امه لا يعني انه خلق شقيا، بل هو في عالم الاقتضاء كذلك، في علم الله لكن على نحو المعلّق على المشيئة، لا على النحو الذي لا يتغيّر، فما ذنب الجنين ان يكون شقي طوال عمره؟ وهنا تأتي ثمرة البداء الذي يصلح ان يغيّر ما في قلم التقدير.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo