< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

43/06/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المطلق والمقيّد. لو ورد مطلق مقيّد.

     أصل المسألة وسبب بحثها، وهو كيفيّة رفع التنافي بين المطلق والمقيّد.

     معنى حمل المطلق على المقيّد؟

     الصورة الأولى: إذا ثبت إطلاق المطلق، فلا بد من التصرّف في ظهور المقيّد.

     الصورة الثانية: إذا ورد المطلق على نحو الإهمال فلا شك في حمل المطلق على المقيّد.

     الصورة الثالثة: إذا ورد المطلق وثبت إطلاقه بمقدمات الحكمة بحيث يمكن تقييده، فها هنا حالتان:

إما مع تعدد التكليف فيبقى كل منهما له جعله وامتثاله، ولا تنافي في ذلك.

وإما مع وحدة التكليف، وهنا نفرق بين المتفقين في الإيجاب والسلب، وبين المختلفين، كذلك بين الأحكام التكليفيّة والاحكام الوضعيّة.

لو ورد مطلق ومقيّد:

هذه النقطة محل ابتلاء كثير ومهمة جدا، لكثرة وجود المطلق والمقيّد في النصوص والروايات.

لو ورد مطلق ومقيّد على موضوع واحد، مثلا: " أعتق رقبة " ثم ورد " أعتق رقبة مؤمنة " فهل يحمل المطلق على المقيّد؟ أو يحمل على فرد أكمل، أو فرد مميّز؟ من قبيل عطف الخاص على العام، مع ان العطف يقتضي المغايرة، مثلا: في العطف أقول: " أكرم العلماء وزيدا " مع العلم ان زيدا هو أحد العلماء. لماذا حددت وعطفت على العلماء زيدا وهو أحد العلماء، فالأمر بالعام يكفي لشموله زيدا، فلا داعي للعطف، إذن لماذا يعطف العام على الخاص؟

الجواب: ان هناك خصوصيّة في زيد إما لكونه أفضل الافراد، أو لكونه مهمشا، أو لكونه منسيا، أو لكون عدوا لك فيتوهم عدم الرغبة في إكرامه أو غير ذلك، الأسباب عديدة.

فأحيانا يأتي نفس حكم العام على الخاص في نص آخر لغايات عقلائيّة، فلا يكون لغوا.

منشأ المسألة: لا شك في وجود تناف بدوي بين المطلق والمقيّد، سواء كانا مختلفين في الحكم كما في " اعتق رقبة " و " لا تعتق الرقبة الكافرة "، وهو واضح، أو كانا متوافقين بناء على مفهوم الوصف، كما لو قلت: " اعتق رقبة "، ثم قلت: " اعتق رقبة كافرة " فإن مفهوم الأخيرة ينافي حكم المطلق في الأولى. واما إذا لم نقل بمفهوم الوصف فقد يقال بلغوية المقيّد حينئذ لان حكمه ورد في المطلق. ماذا نفعل لرفع التنافي؟

السؤال هل يحمل المطلق على المقيّد أو لا؟

ما معنى حمل المطلق على المقيّد: المراد من الحمل ان يكون المراد الجدي وليس الاستعمالي من المطلق هو خصوص المقيّد، ويكون التقييد تفسيرا للمطلق، وبيانا للمراد. فكأنه لا يوجد سوى أمر وأحد وهو المقيّد، أما الأمر بالمطلق فيكون توطئة له، ويكون لهذا النوع من الاستعمال ثمار منها جواز التمسك بالعام في بعض الشبهات على تفصيل مرّ معنا في بحث العام والخاص.

وها هنا ثلاث صور:

الصورة الأولى: تارة يكون متعلّق الأمر قد ثبت اطلاقه، وحينئذ لا يحمل المطلق على المقيّد، بل يحمل المقيّد على أنه أميز الأفراد أو أخس الأفراد الذي يأتي في النهي أو غيرهما، مثلا: " لا تشرب اللبن " ثم قلت: "لا تشرب اللبن الحامض".

قلنا ان هذه المسألة انما أنشأت لأجل التنافي البدوي بين المطلق والمقيّد. سنصل إلى نتيجة في رفع اليد لهذا التنافي، وان هناك فرقا بين التخالف والتوافق وان هناك فرقا بين الاحكام التكليفيّة والوضعيّة.

في الاحكام الوضعيّة غالبا ما يقيّد المطلق حتى لو كانا متوافقين، مثلا: " تصلّ " او " صلّ فيما يؤكل لحمه " فتكون دلالتها على الشروط والأجزاء المأخوذة فحينئذ تقيّد المطلق.

وأيضا مثال آخر: ما درسنا أمس في درس الفقه من الروايات الكثيرة المستفيضة على كون الزوجين يتوارثان لو مات أحدهما في العدّة الرجعيّة، الشامل لطلاق الصحيح والمريض. ثم وردت صحيحة الحلبي من انها ترثه ولا يرثها في خصوص طلاق المريض، وهذه تنافي الاطلاقات المذكورة. وقال الفقهاء إنها لكثرة الإطلاقات وشذوذ من قال بغير مضمونها لا بد من الأخذ بالإطلاق، وحينئذ ماذا نفعل بصحيحة الحلبي؟

فإما أن نُعرِض عنها لاستحكام التعارض بين المطلق والمقيّد، وإما نحملها على كراهة إرثه منها، أو بحملها على الطلاق البائن، أي حاول الفقهاء تخريج الصحيحة للخروج من التنافي، بعد أن ثبتوا إطلاق المطلق.

الصورة الثانية: يكون المطلق مأخوذا على نحو الإهمال أو الإجمال، ففي هذه الصورة يحمل المطلق على المقيّد لعدم التنافي بينهما لعدم وجود الاطلاق مع الاهمال. [1]

الصورة الثالثة: أن تكون الماهيّة مأخوذة على نحو الإطلاق، بمعنى أن يكون الإطلاق نتيجة لمقدمات الحكمة، فها هنا حالتان: تارة يكون التكليف واحدا، وتارة يكون متعددا مثلا: يستحب الصوم مطلقا، ثم ورد يستحب صوم النصف من شعبان. هنا يوجد تكليفان الأول الصوم بعنوان الصوم والثاني بعنوان صوم النصف من شعبان. ومثلا: يستحب المشي مطلقا، ثم أقول يستحب المشي لزيارة الحسين (ع)، أو يستحب زيارة الحسين (ع)، ثم ورد روايات يستحب زيارة الحسين في الأربعين أو في النصف من شعبان. لا شك هنا في وجود تكليفين، تكليف بالمطلق ولك الأجر، وتكليف بالمقيّد بعنوان المقيّد في الأربعين أو النصف من شعبان.

فان كان التكليف متعددا فلا تنافي كما لو قال: " اصلّي صلاة الظهر " هذا تكليف مطلق، ونذر صلاة الظهر في المسجد، تكليف آخر مقيّد في المسجد، بالنتيجة هناك حكمان وامتثالان. هنا لا شك في عدم حمل المطلق على المقيّد، بل لا بد من تكليفين، ولا تنافي بينهما.

وثمرته: لو فرضنا أنه صلّى في المسجد فلا شك في سقوط التكليفين معا وحصول الامتثال معا لتحقق العنوانين.

أما لو صلّى في خارج المسجد فهل عليه صلاة أخرى؟

لا شك بعدم وجود صلاة أخرى لأن المطلوب صلاة ظهر واحدة. نعم أصبح الوفاء بالنذر متعذرا، فعليه عقوبة وكفارة.

قد يقال: كيف نتصوّر التكليفين ونحن نعلم ان التكليف الأول قد تمّ بالمطلق، مثلا: أكرم العلماء ثم قلت أكرم زيدا وهو عالم. فهل اصبح التكليف الأول لاغيا أو الثاني لاغيا؟

فانه يقال: يمكن تصور فوائد له، فعندما نعطف باللغة العربية في المثال: أكرم العلماء وزيدا، يجوز عطف الخاص على العام، وقالوا ان العطف يقتضي المغايرة هنا مصداقا لا توجد مغايرة ولو كانت موجودة مفهوميا، لا يوجد تباين بل هناك عموم وخصوص مطلق.

لكن عطف العام على الخاص له أسبابه وثمراته واسبابه العقلائية العرفيّة كما لو قال الآمر: " ائتني بماء لاغتسل "، ثم قال: " ائتني بماء بارد لأشرب "، فان الملاكين يختلفان، وبهذا لا يكون الأمر بالمطلق لاغيا.

بعبارة أخرى: المطلق له ملاك والمقيّد له ملاك، واختلاف الملاكين يكفي لاختلاف الاحكام والعطف. هذه الحالة الأولى عند وجود تكليفين واضحة ولا كلام فيها فلا تنافي بين المطلق والمقيّد.

الحالة الثانية: أن يكون التكليف واحدا، وهي التي وقع الكلاف فيها فهل نحمل المطلق على المقيّد؟

مثلا: أقول:" أكرم العلماء، ثم أقول: " لا تكرم زيدا "، المراد من لفظ العلماء، العلماء عدا زيد، لذلك بعض القدماء قال ان هذا مجاز لانه من باب استعمال العام في الخاص، أي استعمال للفظ في غير ما وضع له، وهذا قبل سلطان العلماء وقبل اكتشاف ان المراد الجدي غير المراد الاستعمالي. فالعلماء المعاصرون قالو ان المراد الاستعمالي هو العموم والمراد الجدي هو الخصوص.[2]

وكما لو قال: " إن ظاهرت فاعتق رقبة " مطلق الرقبة، ثم قال: " إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة " مقيّدة بالمؤمنة. فأننا نعلم أن الظهار له حكم واحد وامتثال واحد، فنستنتج التكليف الواحد في الأمرين.

وها هنا صور كثيرة اختزلناها في صورتين: إما أن يختلفا في السلب والإيجاب، وإما أن يتفقا. مثلا: " اشرب لبنا "، ثم أقول: " لا تشرب اللبن الحامض "، اختلفا في السلب والايجاب. وفي المتفقان مثل: " كل الرمان " " كل الرمان الحامض ". في هذه الصورة أنا أعلم أن عندي تكليف واحد، هنا هل هناك تنافي أو لا؟

فإن اختلفا فقد تسالم الأصحاب على حمل المطلق على المقيّد، كما لو قال: " صلِّ " وقال: " لا تصلِّ فيما لا يؤكل لحمه " حمل المطلق على المقيّد.

وإن توافقا في السلب وايجاب مثلا: " صلّ فيما يؤكل لحمه " " أعتق رقبة مؤمنة " فقد اختلفوا فيه على قولين: أحدهما انه يحمل المطلق على المقيّد، وثانيهما أن يحمل المقيّد على أنه أفضل الأفراد أو أسوئها بمعنى ما له ميّزة.

وقد أشكل عليّ في المثال: " ما عبد الله بشيء أشد من المشي ولا أفضل " قيل: ان هذا يحمل على المشي إلى الكعبة إلى بيت الله لأنه ورد في حديث آخر: " ما عبد الله بشيء اشد من المشي إلى بيته " مقيّد ومطلق، إذن المراد من المشي هو المشي إلى بيت الله، إلى خصوص الكعبة.

قلنا ان هذا مطلق ومقيّد وهما ايجابيان فيحملان اما على تعدد الاستحباب لوجود العنوانين وتعدد التكليف، أو يحمل على أميز الأفراد.

هنا ورد إشكالات متعددة بانه يحمل على المطلق والمقيّد ولا يحمل على اميز الأفراد سنذكرها.

 


[1] في الدرس الماضي طلب مثال على ان يكون هناك مطلق والمقيّد لبّي عقلي: في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) قال: " لا يدخل امرؤ الجنّة إلا بصك من علي (ع) " عام مطلق فاشكل عليه بعض قنوات الفتنة انه يشمل حتى النبي محمد (ص) ظاهرا، لكن الجواب ان هذا مخصص بمخصص لبّي عقلي.
[2] في الواقع انا اعتقد ان المراد الجدّي والاستعمالي كلاهما في العام والمطلق، ففي قولنا: " أكرم العالم إلا الفاسق " يكون المراد الاستعمالي هو جميع العلماء وكذلك المراد الجدي، وإن اشتهر بين المتأخرين ان المراد الاستعمالي هو العموم والمراد الجدّي هو الخصوص. وأقول: المراد وهو العلماء العدول مفهوم من المركب، ويكون الدال عليه من باب تعدّد الدال والمدلول. ولنضرب مثلا في عالم التكوين: الدفتر مؤلّف من جزأين: الجلد والورق. فالجلد ليس مستعملا في الدفتر، بل الجلد جلد، نعم افهم كلمة دفتر من التركيب، فهو المركب وهكذا في تعدد الدال والمدلول. وأجمل ما سمعت في هذا المعنى على بساطته من احد الطلبة الفضلاء: إذا لم يكن عام فلا يوجد خاص.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo