< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

43/08/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المنحى التفكيري في علم الأصول:

     المختار من المنحيين. وهو المنحى الثاني، وهو الرجوع إلى طبيعة المسألة، دون الرجوع إلى الاثار والخيارات، نعم نحاكم الخيارات والاثار بعد تحقيق الجذر.

     اسقاط قصة المنطق على القواعد الاصوليّة، فالقاعد الاصوليّة هي مستنتجة مما عند الناس غالبا.

 

المختار من المنحيين:

اقول: انني حسب ما لاحظته من خلال الكتابات والأبحاث ان هناك منحيين في التفكير الاصولي: منحى يعالج الآراء والخيارات ويحاكمها ومن خلالها يتخذ موقفا، وهناك منحى آخر وهو الرجوع إلى جذر المسألة، فان كانت عقلائيّة نرجع إلى العقلاء وان كانت عقلية نرجع لحكم العقل، وان كانت شرعيّة نرجع للشرع.

اما المختار والذي أنا أميل إليه بل أعمل عليه واسلكه في علم الأصول فهو المنحى الثاني، وهو العودة إلى الجذور ووضع كل مسألة في أي خانة، والمرجعيّة في كل مسألة بحسب طبيعتها، من عقلية أو شرعيّة أو عقلائية ثم نبحثها، وهو الأفضل والأقرب للصواب كمسلك لا للصواب في مقام الاثبات كحقائق.

وإن القواعد الاصوليّة ليست إلا ما عند الناس - الانسان السوي الحكيم - اما القواعد المجعولة فقليلة، فالقاعدة الاصوليّة مستنبطة من مسلكهم واحكامهم، فالعام والخاص، والمطلق والمقيّد، ومباحث الحجّة من حجيّة الخبر أو الشهرة أو غير ذلك هي موجودة عند غالبا الناس وليست اختراعا شرعيا.

ومن هذا المنطلق قلنا أنه لا داعي للبحث في أدلّة حجيّة الخبر في الآيات والروايات، لان خبر الواحد مسألة عقلائيّة، رحمة الله على الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني كان يقول دائما في حجيّة الخبر سيرة العقلاء:"وهو العمدة في الباب "، حجيّة الخبر عنده -ه المنصور والمؤيد مسألة عقلائية ونشير إلى ما عند الناس، لذلك في الآية: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[1] ليست هي الدليل، بل هي ارشاد إلى ما عند الناس أو آية: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [2] أيضا فيها المسألة عقلائيّة يعمل فيها كما يعمل الحكيم من العقلاء وهو رأس العقلاء.

إذن أن أول ما ينبغي فعله في كل مسألة هو: ما هي مرجعيتها وان نعلم اين نضع المسألة في أي خانة، فهل هي مسألة عقليّة أو عقلائية أو شرعيّة؟ بعد تحديد المرجعيّة، والرجوع إليها، نبحث في لآثار والاشكالات والمؤيدات.

هنا أحب أن أروي قصّة تنقل عن أرسطو في المنطق [3] : يقال: إن أرسطو عندما كتب المنطق درّسه لابنه، ثم قال له: انزل إلى الشارع وانظر هل الناس يفهمون المنطق؟

فنزل في المرّة الأولى، فقال له الولد: إن الناس لا يعرفون شيئا من المنطق. فقال له ارسطو: بل انت لا تعرف شيئا منه. ثم درّسه إياه مرّة أخرى، وانزله إلى الشارع وكان جواب الولد: إن الناس يعرفون شيئا من المنطق، فدرّسه إياه في المرّة الثالثة: فقال له: إن الناس يعرفون المنطق جيدا.

وهذه القصّة أحب أن اسقطها على القواعد الأصوليّة فنقول: إن معظم القواعد مأخوذة من مسلك الناس، فمنشؤها عقلائي، وهي لا تتنافى مع الحكم العقلي، ولا الجعل الشرعي. الأصول ليس علما خارجا عن بناء العقلاء، انزل إلى الناس تجد أنها تفكّر أصوليا وتطبّق وبشك صحيح، نعم لا تستطيع أن تستنتج، وقد لا تستطيع تشخيص الصغرى.

لذلك في الأصول المنحى الثاني وهو إعادة المسألة إلى جذرها ومحاكمة الجذر هو أفضل من المنحى الآخر الذي هو محاكمة الخيارات ثم بعد ذلك آخذ موقفا من المسألة. المنحى الثاني أصوب ويعطي رأيا ورؤية افضل.

لذلك أقول في أي قاعدة أصوليّة حتى تستنبطها أرجع إلى نفسك ثم بعد الرجوع إلى الفطرة نحاكم الآراء والخيارات، مثلا في مباحث الالفاظ، الوضع، والاستعمالات، والأوامر، ومقدّمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي، التزاحم والتعارض، مسائل عقلائيّة موجودة عند الناس، وقلنا في درس التزاحم ان حياتنا كلّها تزاحم وبناء العقلاء جميهم على تقديم الأهم من الملاكات.

إلى هنا نكون قد انتهينا من مباحث الالفاظ والأوامر والنواهي، ومباحث العام والخاص والمطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن، وقبل ان نبدأ بأحكام القطع لا بأس بالإشارة إلى مراحل الحكم وقد ذكرناها سابقا لما في الاصطلاحات من أثر.

تذكير بمراحل الحكم:

الشارع لم يتخذ في البيان والبرهان طريقا غير طرق العقلاء، هو شارع حكيم رأس الحكماء والعقلاء.

الآمر عندما يريد أن يأمر بشيء أولا يتصوّر المصلحة من المأمور به ويتصوّر الآثار فيحصل لديه شوق إليها، هذا عبّر عنه بعالم المصالح أو الملاكات كما عبّر عنه السيد الصدر (ره) وبعضهم يسمّيه عالم الاقتضاء، أو عالم المصالح والمفاسد، وهو ما قبل الإنشاء أي جعل الحكم، لذلك في عالم المصالح والملاكات توجد مصالح ويوجد أيضا تزاحم حتى في المراحل الأولى، مثلا في حرمة الخمر يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [4] وهذا في مرحلة ما قبل الجعل والإنشاء، وفي مرحلة الكسر والانكسار الإثم أهم وأكبر من النفع، فيكون ملاك الإثم أقوى من ملاك النفع، فإذا يقدّم الملاك الأقوى، كانه بيّن مقام الجعل لماذا حرّم الله الخمر. وهذه المسألة عقلائيّة لا تحتاج للبحث، القرآن اعطانا هذا المثال إرشادا إلى بناء العقلاء

هذا مرحلة الاقتضاء أو الملاك أو المصالح والمفاسد كما ذكرنا، فإذا تمّت هذه المرحلة يجب أن يجعل على طبقها حكم وهي تسمى مرحلة الجعل أو مرحلة الإنشاء، والجعل وحده ليس كافيا للدفع والتحريك كما في المثال المعاصر مجلس النواب يشرّع، وحتى يصبح التشريع نافذا يجب أن يكون فعليّا ولا يكون كذلك إلا عند النزول في الجريدة الرسميّة، وهذه المرحلة هي المرحلة الثالثة من الحكم سميناها الفعليّة، وكلمة " فعليّة " في المنطق والفلسفة بمعنى الموجود واقعا مقابل القابليّة والشأنيّة والإمكان، وذكر ذلك في المنطق كالقضيّة الفعليّة والقضيّة الامكانيّة في مباحث الجهة.

هذه الفعليّة تكون موجودة عند وجود موضوعها فتصبح فعليّة، فتصبح قضيّة حقيقيّة خارجا متحققة، مثلا: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [5] فلو فرضنا أنه لم يستطع أحد الذهاب إلى الحج، هل تنتفي المصلحة بالحج؟ مرحلة الاقتضاء والمصلحة موجودة، وكذلك الإنشاء موجود بدليل الآية القرآنيّة، وهل صار فعليّا مدفوعا أليه؟ قالوا أنه لا بد من وجود موضوع حتى يصل إلى الفعليّة. وزدنا نحن أيضا عدم وجود المزاحم.

ومعنى الفعليّة في الصطلاح هي مرحلة الدفع للحكم وطلب تنفيذه دفعا في الأوامر أو زجرا في النواهي، صل صم تعلّم جاهد اعط لا تفعل.

المرحلة الأخيرة ان المكلّف نفسه يعلم أو لا يعلم، إذا كان لا يعلم فهو ليس مسؤولا عند العقلاء يرفع عنه القلم كما في الروايات، اما في القوانين الوضعية " القانون لا يحمي المغفلين " [6] الظاهر ان هناك ملاك في جعل الحكم على الجاهل والمحاسبة عليه أهم من ملاك رفع المحاسبة عندهم.

هذه الأربع مراحل وهذه المرحلة الأخيرة سموها التنجيز، سالت اساتذتي لماذا سميت تنجيز، وقلنا ان علاقة اللفظ المنقول إلى معنى جديد لا تنتهي كلّيا، عندما ينقل إلى معنى آخر يبقى للمعنى الآخر آثار موجودة مثل كلمة " نكاح " لغة نكح أي غلب أو التفّ كما في قولنا " تناكحت الأشجار "، هذا وجه الشبه هذا عندما نقل إلى " الوطء " لم ينتف كلّيا بل بقي له في المعنى المنقول له أثر ووجود. كلمة " انجز " تعنى انهى، والتنجيز في مراحل الحكم تعنى انه صار مسؤولا ومحاسبا، المعنى مختلف، لكن هذا من قبيل المنحيين الأصوليين في التفكير، " انجز " تعنى انهى كأنه يقول انه وصل الحكم إلى نهايته وصرت مسؤولا عنه وهذا من آثار الوصول إلى النهاية وليس نفس الوصول.

فالتعريف تارة يكون بالجوهر وهذا منحاي، ارجع إلى الجذر، وتارة يعرفون بالأثر، مثلا: في المنطق أو الأصول درسنا في تعريف الخبر انه هو القضيّة التي تحتمل الصدق والكذب. هذا صحيح لكن هل هو أثر أو جوهر الخبر، التعريف بالقضية الخبرية انها التي تحتمل الصدق والكذب أثر، فالخبر عبارة عن كشف وهذا الكشف إن طابق الواقع فهو الصادق وإن خالف الواقع فهو الكاذب. فإذا طبقنا المنحيين الاصوليين على تعريف الخبر نفهم الفرق بين المنحيين. إذا قلت في تعريف الخبر أن الخبر يكشف عن واقع هذا مرحلة إعادة المسألة إلى جذورها، ومرة أقول ان الخبر ما احتمل الصدق أو الكذب أي بلحاظ الآثار. لذلك نشير ان في " قطر الندى " الكتاب النحوي في اوّله عرّف الكلمة بانها " قول مفرد " وفي السطر التالي يتساءل ويقول لماذا لم تستخدم الوضع في تعريف الكلمة كما فعله غيرك عندما قال: ان اللفظ وضع لمعنى مفرد " هنا استخدم الوضع في التعريف. كان الجواب انا استخدمت في التعريف " القول " لان استخدام الجنس البعيد معيب عند أهل النظر مع امكان التعريف بالجنس القريب ". فلماذا اعرّف بالأثر وأستطيع ان اعرّف بالماهيّة.

في النتيجة: ما نذهب إليه للحكم مرحلو واحدة وهي الانشاء، اما مرحلة الملاكات فهي مقتضي، والفعليّة والتنجيز فهي من الحالات الطارئة على الجعل.

 


[3] فائدة: المنطق لعلّه أكثر علم تجريدي، أبو علي ابن سينا كان يقول: " وجدت أصعب العلوم الفلسفة وأسهل العلوم الطب "، وبتحليلي الشخصي ان الصعوبة في العلم انه كلّما ازداد العلم تجريدا كلّما ازداد صعوبة، وكلما كان حسيّا تجريبيا صار أسهل وذلك من طبيعة البشر. مثلا عند تدريس الطفل الحساب لا يدرس واحد زائد واحد يساوي اثنين مباشرة، بل يدرس تفاحة زائد تفاحة يساوي تفاحتان لان هذا أقرب للحس فيرسخ في الذهن بسهولة وبعد فترة يجردون ذلك ويعلمونه ان واحد زائد واحد يساوي اثنين. وكذلك علم الطبيعيات هو من أسهل العلوم لانه مبني على الحس والتجربة والنظر. اما الرياضيات فهو علم تجريدي وهو صعب لكن أصعب منه علم الفلسفة كما قال ابن سينا، وللفائدة ابن سينا هو أول من أعطى فكرة أن الامراض يمكن أن تنتقل من شخص إلى شخص بالعدوى بحسيمات غير مرئية- الفايرس أو الميكروب – تنتج مرضا. وكذلك يأتي في الصعوبة بعد الفلسفة ومع الرياضيات علم أصول الفقه يحتاج إلى تجريد حتى يمكن أن تصل إلى نتائج.
[6] يقال ان زياد بن ابيه أعلن حالة منع التجول في البصرة، جاء رجل تاجر من الشام وهو لا يعلم بمنع التجول، اخذته الشرطة إلى زياد بن ابيه، فقال له الرجل لم أكن اعلم بمنع التجول، قال انا اعلم ذلك لكني اريد ان احري عليكم الحكم حتى يتأدب غيرك فقتله. هذا ليس انسانا وهنا فرق بين البشر كبشر والانسان لا قيم إنسانية له.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo