< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

44/03/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: القطع:

     رواية قطع الأصابع لا تدل على النهي عن العمل بالقطع والعقل، بل على إلفات النظر إلى وجود ملاكات أخرى.

     أهم مرحلة هي إدخال المسألة في اية خانة، وحينئذ يتحكم فيها جنسها، مثلا: إذا كانت لفظيّة فنحكم فيها الظهورات لا الفلسفة إلا إذا كانت قضايا لا تشوبها الأوهام.

     امثلة متعددة على ذلك.

     بذلك يظهر قيمة تقسيم الشيخ الاصفهاني لمباحث علم الأصول.

     كذلك يظهر وهم انقسام العلماء إلى اصوليين واخباريين.

كنا في مباحث القطع وقلنا ان القطع هو عبارة عن حالة كشفيّة، - كشف تام – ولذلك كانت حجّته ذاتيّة بدليل العقل أو العقلاء أو الغرائزيّة، ولا يمكن رفع حجيّته، وقلنا حتى الحيوانات تعمل بالقطع.

وذكرنا سابقا انه لا يمكن رفع العمل بالقطع وما ذكروه ان القطع ليس بحجّة بدليل بعض الروايات كرواية قطع اصابع يد المرأة التي مرّت معنا حيث قال الإمام (ع) لأبان أنك قد اخذتني بالقياس. لكن ذكرنا ان هذا القياس ظنّي وليس قياسا قطعيا، ظنّ أبان انه كلما زاد عدد الأصابع كلما زادت الديّة ولم يلتفت إلى ملاك آخر وهو ان المرأة تعاقل الرجل بنصف الديّة، بعبارة أخرى كأن الامام الصادق (ع) يقول: ان القطع حجّة لا يمكن رفع حجيّته محال، نعم ما يتوهم منه انه رفع للحجيّة يوجد ملاك انت ادركته لكن قد يكون هناك ملاك آخر انت لم تدركه، من قبيل ان يكون لك رأي فقهي وتفتي على أساسه من خلال وجود ملاك ومناط وقاعدة تمّت وبنيت عليها، لكن بعد فترة تلتفت إلى انه هناك ملاك آخر، وهذا لا يعني أن القطع الأول لم يكن حجّة، بل كانت هناك قاعدة طبقتها ثم التفت إلى ملاك آخر.

فهذه الرواية " يا أبان اخذتني بالقياس " تعني أنك اخذتني بالقياس الظنّي، هناك ملاك وعلّة انت طبقتها لكن هناك ملاك آخر انت لم تلتفت اليه، فالإلفات إلى ملاك آخر لا يعني نفي أثر الملاك الأول. ولذلك هناك بعض من أنكر الرواية فلا مانع من ان يبيّن الإمام ان هناك ملاكا آخر.

لذلك نقول ان القطع حجيّته ذاتية ولا يمكن رفع حجيّته ابدا بغض النظر عن كيفيّة الاستدلال على ذلك، المسألة وجدانيّة ولا تحتاج إلى أكثر من ذلك، استدلوا على ذلك بانه لو كان هناك خبر متواتر على خلاف القطع فلو رفعت حجيّة القطع لأدى ذلك إلى اجتماع الضدين حقيقة عند الإصابة واعتقادا عند الخطأ وهذا هو كلام صاحب الكفاية وغيره، يمكن الاستدلال على ذلك لكننا لسنا بحاجة إلى ذلك لان العمل بالقطع والجري على طبقه وجداني بل غرائزي لا يحتاج إلى دليل، ووجوب الجري على طبق القطع ليس جعليا قطعا.

إذن ملخصا في الرواية نرى ان الامام (ع):

أولا: صرّح الإمام (ع) أن هذا قياس أي القياس الظني وليس القياس بالمعنى اللغوي بل بالمعنى الاصطلاحي الذي كان سائدا بين الفقهاء ذلك الزمان، وهو القياس الظني وليس القياس القطعي، ونحن نعلم ان القياس على أقسام: قياسا قطعيا وهو حجّة قطعا واجماعا الذي هو القياس المنصوص العلّة، وقياس الاولويّة، وقياس العلّة الظاهرة، نعم القياس المنهي عنه هو القياس الظني المستنبط العلّة استنباطا ظنيا.

الذي أسقط الإمام (ع) حجيته هو قياس العلّة المستنبطة الظنيّة، الذي كان باصطلاح الزمن الذي كان فيه أبان، وهو اصطلاح فقهي وليس بالمعنى اللغوي، أي ليس مطلق القياس والتجاوز من شيء إلى شيء آخر. وهذا القياس الاصطلاحي كان متداولا لفظه سابقا، ومراد الامام (ع) ينصرف إلى ما كان متداولا وهو القياس الظني العلّة أي قياس أبو حنيفة.

ثانيا: إن الإمام بيّن أن الإنسان قاصر في كثير من مدركاته، فقد توهم أبان كما كثير من الناس أن الملاك الوحيد في المسألة هو القلّة والكثرة، وحينئذ استنكروا حكم الامام (ع). لكن الامام (ع) بيّن ملاكا آخر يجب تحكيمه لم يلتفت إليه أبان وهو معاقلة المرأة الرجل إلى نصف الديّة ورجوعها بعد ذلك، وهو ما لم يلتفت إليه أبان. ولذا كان قياس أبان قياسا ظنيا لا قياسا قطعيا، فهناك ملاكات أخرى لا ندركها مثلا في كفارات الحج عند المخالفة في المرّة الأولى يكون عليه شيء وفي المرّة الثانية شيء وكذلك الثالثة، اما في المرّة الرابعة فلا يكون عليه شيء، كيف يمكن تقبل ذلك؟! فإذا ارتكب الحاج معصية في المرّة الأولى والثانية والثالثة يكون عليه الكفارة اما في الرابعة فلا كفارة عليه؟! للوهلة الأولى يجب ان تزيد الكفارة. فبالملاك الأول الكثرة والقلّة تؤدي إلى زيادة الكفارة، اما مع وجود ملاك آخر وهو أن يشعر أن العاصي قد تجاوز حدّه، فلا تجدي الكفارة حينئذ، لان الكفارة ستارة العيوب ومخففة آثار الذنوب، فحينئذ لا تجدي الكفارة، ولا تثبت عليه، وهذا ليس تخفيفا عنه بل زيادة قصاص عليه، وهذا لا يلتفت له الناس، فليس كل الملاكات يدركها الانسان.

فهذا هو مراد الامام (ع) في الرواية. من هنا لا تصلح الرواية للردع عن العمل بالعلم والقطع وحكم العقل.

النتيجة: أن القطع حجّة ذاتيّة لا بجعل جاعل، مهما كان سبب القطع حتى لو كان من طير طائر، وسواء أكان من الكتاب والسنّة أم من غيرهما، شرط أن يكون بديهيا فطريا لا تشوبه شائبة الأوهام، والذي أراه أنه محل إجماع بين أصحابنا جميعا ممن يسمّون أصوليين أو أخباريين. فعندما يقطع الانسان ينكشف الواقع امامه لذلك عبّر عنه السيد الخوئي (ره) بان القطع مسألة غرائزيّة والعمل بالقطع مسألة لا تحتاج إلى دليل.

وذكرنا ان المشكلة في الاستنباطات هو ان نجعل المسألة في أي خانة، وإذا جعلناها في الخانة الصحيحة تنتفي أكثر الإشكالات. [1] [2]

وذكرنا سابقا دليل صاحب الكفاية (ره) ان عدم حجيّة القطع إذا كان من غير النقل تؤدي إلى اجتماع الضديّن أو النقيضين في حال الإصابة حقيقة لأن القطع لو أصاب وورد في النصوص ما يخالفه، فان كان النص ظنيا فلا يجوز تقديمه على القطع وجدانا لان الظن لا يقدّم على القطع، وإن كان النص قطعيا لزم اجتماع الضديّن حقيقة. واما في حال خطأ القطع فإنه يلزم اجتماع الضدين اعتقادا لأني اعتقد بالواقع المنكشف بالقطع واعتقد ما يخالفه بالنقل.

في الواقع نحن لسنا بحاجة لهذا كلّه فوجدانا القطع عبارة عن انكشاف والانكشاف حجّة.

نعم يجب ان نتكل في الاستنباطات الفقهية على أمور مسلّمة لا تشوبها الأوهام، اما ما لا يكون كذلك فلا يصح الاتكال عليه ليكون مستندا للاستنباط. ونعطي بعض الأمثلة:

غير المستقلات العقليّة:

غير المستقلات العقلية كالحكم بوجوب المقدمة بالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، فان وصل البحث فيها إلى مرحلة القطع واليقين جاز جعلها طريقا لإثبات الحكم الشرعي، لأنها أصبحت كالبديهيات التي لا تشوبها الأوهام الذي هو حجّة.

وأما إذا بقيت في مرحلة النظريّة، وان كان الظن فيها قويا، فانها لا تصلح مستندا للحكم الشرعي، وغالبا ما يتوهم الظان انه متيقّن. واما نحن فلم تثبت عندنا أصلا.

مثال آخر: مسالة اجتماع الأمر والنهي:

صاحب الفصول جعل المسألة مبينيه على مسالة أصالة الماهيّة واصالة الوجود، فإذا قلنا باصالة الماهيّة أدت إلى جواز الاجتماع، وإذا قلنا باصالة الوجود أدت إلى عدم جواز الاجتماع.

جوابنا: انك بنيت المسألة على اصالة الماهيّة واصالة الوجوب، هذه المسألة لا تزال نظرية فلسفيّة وليست قطعيّة، انت ذهبت إلى اصالة الماهيّة ليس على نحو القطع واليقين، وأيضا ليست مسألة فطريّة لا تشوبها الأوهام مع العلم ان المسألة قد ترتبط بذلك، بل بمسألة تعلق الاحكام بالطبيعة أو بالافراد.

ومسال آخر: تعلق الاحكام بالطبائع أو بالأفراد: تعلّق الاحكام بالطبيعة او بالأفراد مسألة لفظيّة ومسألة ظهور، تعود إلى حكمك وانت حكمت بالطبيعة التي تصورتها وعلّقت الامر والحكم على الطبيعة، مثلا: " اكرم العالم " انت تصورت طبيعة العالم وعلّقت الحكم فيه، ولا دخل هنا للأفراد. عالم التعليق عالم ظهورات وكيفيّت التعلقات، ولذا، كل ما ذكره من الادلّة التي ركبوها على انها عقليّة لا دخل لها هنا.

تعليق وتصويب: هذا الذي انكره الكثيرون انه جعلنا الفلسفة جزءا من مباحث الالفاظ، لذلك إذا التفتنا إلى هذه المسألة وهي من أهم المسائل. وهو ان جعل المسألة محل الكلام في أي خانة؟ أهل هي المسائل اللفظيّة أو العقليّة أو العقلائية أو الغرائزيّة؟ وبذلك ينتهي الكثير من الإشكالات، ونطوي العشرات من الصفحات، لكن تعودنا للأسف على نمط الفلسفة اليونانيّة.

إذن لا معنى لإدخال الفلسفة في مسألة رجوع القيد للهيئة أو المادّة، لانها مسألة لفظيّة، كذلك مسألة تعلّق الاحكام بالطبائع والافراد.

نعم قد يشكل بعض الإشكالات الفلسفيّة، وحينئذ نقول: إن كانت لا تشوبها الأوهام فلا بد حينئذ من تأويل الظهور، مثل تأويل قوله تعالى: " يد الله " لأن مسألة تجسيم الله عز وجل مسألة عقليّة، فلا بد من وصعها في خانة العقل، لا في خانة مباحث الألفاظ.

فإن جعلنا دليل جواز الاجتماع مبتن على مسألة تعلّق الاحكام بالطبائع أو بالأفراد، فلا مانع من ذلك، والمفروض انها كذلك حتى عند من يسمّونهم بالأخباريين لأن مسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو بالأفراد ليست مسألة عقليّة بل من الظهورات اللفظيّة، لم نتكل على البديهيات والفطريات ولم نرجع الأمور إلى جزورها.

وهكذا دواليك لو كانت المسألة مبتنية على نظريات عقليّة مثل المقولات العشرة وغيرها.

لفت نظر: قد يتردد على اسماعنا عدم جواز إدخال المسألة العقليّة والفلسفيّة في إستنباط الاحكام الشرعيّة.

لكن ظهر مما ذكرنا أن مراد هؤلاء هي الاستحسانات والأقيسة العقليّة الظنيّة، وبعض ما ذكر من قبيل استخدام المقولات العشر وان ليس يبنها جامع وغير ذلك، مما يؤدي إلى اضطراب في الاستنباط، وهذا لا ينبغي التردد في التوقف عنده وعدم الاتكال عليه في استنباط الاحكام، بل لا بد من الرجوع إلى النقل، وهذا ما ارادته الروايات الآمرة بالرجوع إلى الأدلّة النقلية من كتاب أو سنّة، وليس مراده طرح العقل كليا والبديهيات التي لا تشوبها الأوهام.

ملخص الكلام: اننا عند التصدي لمسألة لا بد من أمرين أساسيين:

أولا: حسن إدخال المسألة في أي خانة.

ثانيا: الاتكال في الاحكام العقليّة على الأمور التي لا تشوبها الأوهام.


[2] ردا على سؤال أحد الطلبة الافاضل عن الدواعش يقال هو قاطع انه على حق: الجواب: تارة يكون السؤال عن حسابه عند الله ما هو؟ وتارة يكون السؤال عن حكمه في الأرض. اما الجواب عن السؤال ففي الأرض حكمه القصاص، اما عن الثاني: فيكون الحكم بينه وبين الله عز وجل. لذلك قلنا استطرادا ان الكفر هو ليس انكار وجود الله عز وجل ولا نبوة النبي محمد (ص) الكفر هو الجحود، والجحود هو ان انكر الحق امام نفسي ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ انا امام نفسي وبعمقي اعلم ان النبي محمد (ص) نبي مرسل ومع ذلك أحاول ان اقنع نفسي بان هذا ليس صحيحا كما اعترف أبو سفيان امام غلامه في بعض الروايات والقصّة معروفة بانه لم ينكر نبوة النبي لكن انكر ان يكون لبني هاشم كل هذه المناقب/ وحاول ان يقنع نفسه أن محمد كاذب ودفعه إلى ذلك منافات النبوة لمصالحه الشخصية.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo