< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

44/08/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن:

     مباحث الظن.

     الموانع التي ذكرت لعدم الامكان التعبد بالظن.

     الجواب: لا قبح في اعتبار الامارة، أما إشكال تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة فان المصلحة النوعيّة التي يقتضيها اعتبار الاماراة مقدّمة على الشخصية.

     اما اجتماع المثلين فلا يوجد إلا حكم واحد في الامارات على القول بالطريقية، وكذلك اجتماع الضدين.

تمهيد: إذن اشكالات ابن قبا: هي أن العمل بحجيّة الامارة واعتبارها تؤدي إلى إما إلى تفويت المصلحة وإما الالقاء في المفسدة هذا من جهّة الملاكات، وإما لاجتماع الضدين أو اجتماع المثلين وهذا من جهة التكليف.

ذكرنا أمس أن الامارات ليس فيها جعل، ليس فيها إنشاء حكم ظاهري، بل وهم حكم، لذلك إذا اخطأت لا يوجد حكم، وكذلك إذا اصابت، لا يوجد اجتماع مثلين ولا اجتماع ضدين. الأمارة لا تنشأ حكما ظاهريا إلا بناء على التصويب، وعلى السببيّة على بعض أوجهها المنسوبة للأشاعرة بان الامارة ينشأ عنها حكم.

اما بالنسبة للإلقاء في المفسدة، هناك مصلحة نوعيّة وهي انه لا بد للبشر من تبادل المعلومات، فإذا انسد باب العلم فما العمل وكذلك إذا انفتح باب العلم فما العمل؟

إذا لم نعمل بالاخبار ولا بالشهرات كيف اتبادل المعلومات؟ إذا لم نعمل تتعطل الأمور اساسية في حياة البشر ةتكوين كياناتهم، كالتواصل الاجتماعي تواصل الانسان مع الانسان يتعطل، ونحن نعلم أن هناك اخطاء في الامارات، ومع ذلك نعتمدها لانها من باب المصلحة النوعيّة، والمصلحة النوعيّة مقدّمة على المصلحة الشخصيّة.

فالكيانات البشرية مبنيّة على العمل بالامارات فإما ان الغي هذا الكيان المتكامل القائم على التواصل، إذا حصرت التواصل وتبادل المعلومات بالعلم والقطع، وإما أن اعمل بالامارة.

هذا كل ما في المسألة. لذلك عرفنا علم الاصول بتعريف جامع مختصر وهو: "ان علم الاصول ما يبحث فيه عن كواشف فإن لم اجد ابحث عن وظائف". فالامارت كواشف، ومع وجود امارة معتبرة لا مجرى للأصول اصلا لانها عبارة عن وظائف عمليّة. فعندما أعجز عن الامارات المعتبرة ارجع للأصول العمليّة لذكل سميّت عمليّة "ماذا أعمل" لان العلم والعلمي كالكتاب والسنّة والامارة المعتبرة والظن قد انسدا وحينئذ اذهب إلى ما هي وظيفتي.

هذا التعريف يلخص علم الاصول، وعليه، وعلى ما نذهب إليه من الطريقيّة للأمارات بان المصلحة النوعيّة مقدّمة على المصلحة الشخصية من باب تقديم الأهم على المهم، ولذلك حتى على السببية قالوا بالمصلحة السلوكية وهذا كاف في رفع جميع الاشكالات.

لكن لا بأس بالنظر في هذه الاشكالات:

أما إشكال تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة عند الخطأ: فالكلام تارة مع انسداد باب العلم، العلم بالواقع والقطع به، وتارة مع انفتاحه:

أما مع الانسداد: فالامارة عبارة في جوهرها عن كاشف عن الواقع بغض النظر عن كيفية اللسان، لكنها كاشف ظنّي لا ينشأ مصلحة ولا يكون سببا، هو أقرب إلى الواقع، ولا طريق لدينا آخر للوصول إلى الأحكام الواقعيّة غير الامارات.

ولذا يلاحظ خطان في اعتبار الأمارات المعتبرة: الاقربيّة إلى الواقع والايسريّة.

فإذا اجتمعت الأمران كانت الامارات معتبرة عند العقلاء، فإن الامارات منشؤها عقلائي وقد أقرّ الشارع ما عند العقلاء كما سنرى لاحقا. والعقلاء إنما ابتكروها لحاجة تبادل المعلومات فيما بينهم، وهي حاجة عقلائية مهمّة لا يمكن الاستغناء عنها وبدونها لا يوجد تواصل اجتماعي بينهم وينهار كيان المجتمع.

لكن العقلاء لاحظوا أمرين:

الاول: الاقربيّة إلى الواقع لان التكليف هو بالحكم الواقعي، ولا يجوز اهماله، وحيث أن باب العلم بالواقع قد انسد كما هو المفروض، فإنه لا يمكن تحصيله إلا عن طريق الامارة الظنيّة، الأقرب فالأقرب.

الثاني: الايسريّة، بمعنى أن تكون الامارة ميسورة التحقق وليس عسيرة أي يسهل على الناس عموما تحصيلها.

فإذا تحقق الأمران اعتمدها العقلاء طريقا معتبرا عندهم يقوم عليها معاشهم، وتقوم بها معاملاتهم، وفي هذا مصلحة كبيرة لهم تتجاوز بها مصلحة الواقع حتى مع العلم بخطأ الامارة أحيانا. وهذا ديدن عقلائي، إذ يغلبون المصلحة النوعيّة على المصلحة الشخصيّة، ألا تراهم يذهبون إلى الاطباء رغم أنهم يعلمون بخطئهم احيانا، فيتجاوزون الخطأ، وما ذلك إلا لأن عدم الذهاب إليهم فيه مفسدة كبيرة، وهي ضياعهم وبقاؤهم في دوامة الامراض، ففضلوا الرجوع إلى الاطباء رغم علمهم بالخطأ احيانا. وهكذا في كل المِهَن، بل كل أحوالهم العقلائية.

فكل الاشكالات ردّها ان المصلحة النوعيّة تغطي الملاك، اما اجتماع المثلين والضدين فالامارات لا تنشأ حكما ظاهريا من الاساس حتى نقع في الاشكالين.

لكن لا نستطيع ان نتجاوز ما ذكروه، وقد فصّل الاصوليون المسألة، وسطّروا فيها صفحات كثيرة، فالسيد الخوئي (ره) مثلا قال أن الاشكالات تارة في عالم الملاك، وتارة في عالم الجعل والتكليف.

جعل لها للأمارة عندما تخطأ في عالم الملاك ثلاث صور:

الصورة الاولى: ما إذا دلّت الامارة على وجوب ما هو مباح واقعا أو على حرمته. [1]

ثم يقول (ره): لا إشكال فيها إذ العقل لا يرى مانعا من الزام المولى عبد بفعل ما هو مباح واقعا أو بتركه، تحفظا على غرضه المهم أي المصلحة الملزمة الموجودة في بعض الأفراد، فأن الأحكام وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها على ما هو المعروف من مذهب العدليّة، إلا أنه يكفي المصلحة الملزمة النوعيّة، ولا تعتبر المصلحة الشخصية دائما، إذ قد تكون المصلحة الملزمة في بعض الأفراد، ولكن المولى يجعل الحكم بنحو العموم فيما لم يتميّز واحد المصلحة عن غيره، تحفظا على تلك المصلحة الموجودة عند البعض.

ثم السيد (ره) يعطي مثالا شرعيا على ذلك: وقد وقع نظير هذا الحكم في الشرع المقدس ويقع في العرف كثيرا، اما في الشرع فكتشريع العدة، فان المصلحة فيه - وهي حفظ الأنساب وعدم اختلاط المياه - وان لم تكن مطردة في جميع موارد وجوبها، الا ان الشارع قد شرعها بنحو العموم ، تحفظا على تلك المصلحة الموجودة في بعض الموارد، فاكتفى في تشريع العدة بوجود المصلحة النوعية وليس دائرا مدار المصلحة الشخصية....

وغيرها من الامثله العرفيّة - ذكرها ومن ارادها فليراجع -

لكن نقول: في هذه الصورة وفي الصورتين اللاحقتين الأمر كما ذكرنا من وجود مصلحة ملزمة نوعيّة تغلب المصلحة الشخصيّة.

ثم يكمل (ره): الصورة الثانية: ما إذا دلّت الامارة على اباحة ما هو واجب واقعا أو حرام كذلك. [2]

ثم يقول: لا إشكال في جعل المولى الحجيّة أصلا، فمع انسداد باب العلم لا إشكال في جعل حجيّة الامارة أصلا، إذ على تقدير عدم كون الامارة حجّة من قبل المولى كان المكلّف مرخصا في الفعل أو الترك لاستقلال عقله بقبح العقاب بلا بيان، وكان له أيضا أن يحتاط بترك ما هو محتمل الحرمة والاتيان بما هو محتمل الوجوب، فكذا الأمر بعد حجيّة الامارة، فإن مفادها الترخيص على الفرض، فله أن يفعل وله أن يترك بمقتضى حجيّة الامارة، وله أن يحتاط.

وبالجملة بعد فرض عدم تمكّن المكلّف من الوصول إلى الواقع يدور الأمر بين أن يتركه وعقله يستقل في الترخيص، أو يجعل له طريقا يوصله إلى الواقع غالبا، لا ينبغي الشك في أن الثاني هو المتعيّن، ومخالفة الامارة للواقع مما لا محذور فيه، بعد عدم تنجّز الواقع على المكلّف، وكونه مرخصا في الفعل والترك بمقتضى حكم العقل، فلا يستند فوات المصلحة أو الوقوع في المفسدة إلى التعبّد بالامارة.

أما الصورة الثالثة: وهي ما إذا دلّت الامارة على وجوب ما كان حراما في الواقع، أو على حرمة ما كان واجبا في الواقع، فالتعبّد بالامارة فيها وإن كان مستلزما لتفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة في بعض الأفراد، إلا أنه لا قبح فيه، لو يرى المولى العالم كونها غالبا مطابقة للواقع.

وبعبارة أخرى: الأمر دائر بين عدم جعل الامارة حجة فيختار المكلّف ما يشاء من الفعل والترك والمفروض عدم إمكان الاحتياط، وبين جعل الامارة حجّة فيفعل المكلف ما دلّت الامارة على وجوبه، ويترك ما دلّت على حرمته، ولو يرى المولى العالم بالحقائق أن تفويت الملاك الواقعي في الصورة الاولى أكثر من الصورة الثانية تعيّن عليه جعل الامارة حجّة وإن استلزم العمل بها فوت الملاك الواقعي احيانا. والطريقة العقلائية أيضا كذلك. كما نرى أن سيرة العقلاء جرت على الرجوع إلى الأطباء مع ما يرون من الخطأ الصادر منهم الموجب للهلاك أحيانا، وليس الرجوع إليهم الا لغلبة مصادفة معالجتهم للواقع. هذا كله على تقدير انسداد باب العلم .[3] انتهى كلامه رفع مقامه.

ويرد عليه: أنه جعل مناط الاعتبار هو كون الامارة مطابقة للواقع غالبا، فلو عبّر أنها مطابقة للمصلحة النوعية كان اصح واشمل، فإن كلامه هذا يجرنا إلى سقوطها عند قيام الظن على خلافها.

كذلك لو كانت العلّة في حجيّة الامارات هي الغالبيّة فهذا يؤدي إلى حجيّة الشهرة وهذا ما لا يقول به السيّد الخوئي (ره)، نعم "ربّ مشهور لا اصل له" لكن غالبا المشهورات صحيحة، وفي الخبر: " خذ ما اشتهر بين اصحاب فان المشهور لا ريب فيه"، وكذلك غالب المظنونات صحيحة، وهذا يؤدي ايضا إلى حجيّة الظن.

فالميزان الذي جعله السيد (ره) هو غالبية المطابقة للواقع يؤدي إلى حجيّة الشهرة وحجيّة الظن وكل الامارات والظن المطلق وحتى القياس المستنبط من العلّة، التي تكون غالبا مطابقة للواقع، وهذا ما لا يقول السيّد (ره) بحجيته.


[1] مثلا بعض الاخوة المشايخ يرى أن لمس المرأة الاجنبيّة أي السلام ليس محرما، لكن هناك رواية معتبرة تقول: "لا يصافح الرجل المرأة إلا من وراء ثوب، ولا يغمز كفها"، قد تكون في الواقع جائز ومباح لكن الامارة دلّة على الحرمة أو العكس.
[2] مثال: المشهورة بالزنى هل يجوز الاستمتاع بها أو لا؟ توجد روايات بالجواز مضمونها انه ينقلها من حرام إلى حلال. لكن قد يكون واقعا حرام.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo