< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

44/11/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مجرى الأدلة اللفظية ةفي الدلالات الثلاث.

- تطبيق على العام والخاص.

- احوال الشك في المراد. فإما أن يكون الشك في أصل الظهور، وإما في حجيّته.

- الشك في أصل الظهور إما أن يكون للجهل بالوضع وعدم أنس اللفظ بالمعنى، فهذا لا تجري فيه أصالة الظهور.

- وإما للشك في قرينيّة الموجود، فلا تجري أيضا.

- وإما للشك في وجود القرينة فهي تجري.

- أما الشك في حجيّة الظهور بعد انعقاده، إما للغفلة عن إقامة قرينة، وإما لتعمد عدم إقامة قرينة، وإما احتمال قرينة لم نعثر عليها بعد الفحص، وفي الجميع تجري أصالة الظهور.

قلنا أن الدلالة واحدة وهي الدلالة التصوريّة، والدلالتان الدلالة التصديقيّة الأولى والدلالة التصديقيّة الثانية هما حالتان للمتكلّم وليستا دخيلتين في نفس مفهوم اللفظ، وقلنا أن الأصول اللفظية إنما تجري عند الشك في مراد المتكلّم، أي المراد الجدّي لا الاستعمالي، لان الأصول أصول عقلائيّة والعقلاء يهمهم المراد، ماذا تريد جديا، أما كيفيّة التعبير عن المراد فهو آخر همّهم.

تطبيق على العام والخاص:

لو ورد عام وخاص من قبيل: " أكرم كل عالم إلا الفاسق" فما هو المستعمل فيه لفظ العام "العلماء"؟

توجهان: ذهب بعض القدماء إلى كون العام مجازا في الباقي، نظرا إلى أن العام موضوع للعموم، فإرادة الخصوص هو استعمال له في غير ما وضع له، فيكون استعمالا مجازيا. [1]

وذهب المتأخرون إلى كونه استعمالا حقيقيا، أي هو استعمال في العموم لكن المراد الجدّي هو الباقي، فيكون استعمالا على نحو الحقيقة لأنه استعمال اللفظ في ما وضع له، فيكون الثاني في لفظ " كل عالم" العموم، والمستعمل فيه "عموم العلماء"، المراد الجدّي هو خصوص العدول منهم، ذلك أن الآمر يعلم من حين أمره بالإكرام أن المراد هو خصوص العدول.

ولكن: نطرح اليوم نظريّة أخرى وهي أنه في العام والخاص وفي المثال المذكور يكون المراد الجدّي أيضا هو العموم فيكون التالي في لفظ "كل عالم":

الموضوع له: هو العموم.

المستعمل فيه: هو العموم.

المراد الجدّ: هو أيضا العموم.

وبذلك لما ذكرناه من ان الظهور هو أمر عقلائي تبانى عليه الناس لفهم مراداتهم، فتكون أصالة الظهور منقحة للمراد الجدّي، والمراد الجدّي ليس هو خصوص "العلماء العدول"، بل المراد الجدّي هو: "العلماء باستثناء الفساق".

بيانه: فرق بين قضيتين: "اكرم كل عالم عادل" و "اكرم كل عالم إلا الفاسق"، فإنه في القضيّة الأولى يكون "العادل" وصفا وجزء الموضوع، أما في الثانية فهو قضيّة استثناء أي قيد للحكم. وفرق شاسع بين القضيّة الوصفيّة والقضيّة الاستثنائية، فرق بين القيد للموضوع والقيد للحكم.

ولذلك رتب العلماء على عدم الفرق بين القضيّة الوصفية والقضية الاستثنائيّة عدم التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

والجواب: أن الفرق موجود حتى في عالم الثبوت، ففي عالم الاثبات هناك قضيتان: قضيّة وصفية وقضيّة استثنائية، وهما يختلفان في المؤدّى، فكذلك الثبوت لان عالم الاثبات انعكاس لعالم الثبوت. فالتعبير في كل قضيّة يختلف عن التعبير في القضيّة الآخرى، هذا يعني انني اقصد شيئين، وهو انه في عالم الواقع هناك فساق وعدول ولا ثالث لهم، وأيضا في عالم الواقع أنا اريد منك أنك إذا شككت تتمسّك بالعام، وهذه هي الأرادة الجديّة في المثال.

ولما كان الاستثناء مما ظهر عرفا، فلا بد ان يكون ما قبله ظاهرا في العموم كي يستثنى منه، كما يقول بعض الطلبة فيكم وهو من الأخوة الشعراء الأفاضل" إذا لم يكن هناك عموم لا يوجد خصوص"، وذلك في فهم العقلاء وليس في استعمالهم، لأن الخصوص فرع العموم. والتخصيص لا يكون من المراد الاستعمالي، بل من المراد الجدّي، لما ذكرناه غير مرّة من أن همّ الناس هو مراد المتكلّم لا كيفية الاستعمال، فالعام لا بد ان يكون مرادا جديا كي يتمّ تخصيصه. نعم الخصوص يفهم من المجموع المكوّر من العام والخاص، أي من الجملة بأكملها لا من العام ويكون الخاص قرينة على إرادة الخصوص من لفظ العام "كل".

وعند الشك في المراد: النتيجة انه يجب العمل بالظواهر، فإذا وجدت قرينة واضحة على خلاف الظاهر أخذنا بها ، وإن لم يتضح الأمر وشككنا في مراد المتكلّم، فحينئذ لا يخلو الأمر:

إما أن يكون السبب هو عدم تحقق الظهور أصلا.

وإما إن يكون السبب هو عدم حجيّة الظهور المتحقق، أي ان للكلام ظاهر ولكنه ليس بحجّة.

ففي الحالة الأولى أي عدم تحقق الظهور فأسبابه لا تخلو:

    1. إما من الجهل غالبا بالوضع، كالجهل في وضع كلمة "حندقوقى"، وعدم ما يؤدي إلى ظهور كالمجاز المشهور - بناء على ظهور الكلام فيه-.

ففي هذه الحالة تنعدم الدلالة اللفظية وحتى الدلالة التصوريّة، وتصل النوبة إلى الأدلّة الأخرى أو الأصل العملي.

    2. وإما أن أعلم بالوضع ولكن أشك في قرينيّة الموجود دون الشك في القرينة.

ففي هذه الحالة أيضا تنتفي الدلالة اللفظية لعدم الظهور، ولا أرجع لأصالة الظهور لان الفرض انتفاؤها.

مثال على ذلك: الضمير الراجع إلى بعض أفراد العام كقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً﴾[2] ونحن نعلم أن حق الردّ هو خاص بالمطلقّة الرجعيّة، فهل يكون قرينة على تخصيص العام الظاهر وهو "المطلقات" الشامل للرجعيّة والبائنة؟

وأتى بعد ذلك: "بعولتهنّ احق بردّهن" فتكون العدّة ثلاثة قروء خاصة بالرجعيّة. لو كان ذلك قرينة هل هذه تكون قرينة على ان المراد من المطلقات خصوص الرجعيات، لان عود الضمير إلى مرجعه يقتضي التخصيص؟.

فهذا مثال على الشك بقرينيّة الموجود، لانه في الآية شيء موجود وهو "وبعولتهن أحق بردهنّ" لكن هل هو قرينة على ان المراد في مقدار العدّة وهو ثلاثة قروء خصوص الرجعيات؟ .

ومثال آخر: الأمر بعد الحظر أو توهمه كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [3] فهل صيغة الأمر في "وصطادوا" ظاهرة في الوجوب بعد تحريم الصيد حال الإحرام؟ فهذا من احتمال قرينية الموجود، أي احتمال أن يكون المقام وهو حظر الصيد قرينة على عدم ظهور " اصطادوا " في الوجوب، وهو قرينة على الاباحة. قلنا في مباحث الأصول أنه يرتفع أصل التحريم من دون ان نعمل اصالة الظهور في الموضوع له، أي ظهور الصيغة في الوجوب، ونحتاج لدليل آخر، نعم يرتفع التحريم دون اثبات غيره من الأحكام.

وفي المثالين وهذه الحالة لا بناء لأهل المحاورة وأهل اللغة على العمل بعدم قرينيّة الموجود ويكون حالها حال الأولى من عدم الظهور اللفظي، فنذهب إلى أدلّة أخرى أو تكون مجرى الأصل العملي.

    3. وإما أن يكون سبب الشك في وجود قرينة، وهذا لا يخلو من أحد أمرين:

إما أن يكون عدم الظهور لغفلة المتكلّم عن إقامة القرينة، وما أشبه الغفلة، من سهو أو نسيان، ففي هذه الحالة فإن العقلاء يبنون على عدم الغفلة وعدم الخطأ، وعدم النسيان وغير ذلك. فهنا تأتي أصالة السند في مسألة العمل في خبر الواحد.

وإما أن يكون السبب خارجا عن إرادة المتكلّم، كما في تقطيع الروايات، فإن كُتّاب الروايات أخذوا ما يريدون من الرواية وحذفوا الباقي ولم يذكروه واسقطوه، مع إحتمال أن يكون لهذا المسقط دخالة في فهم المراد من الرواية، وهذه قد تكون قرائن على خلاف الظواهر. فهل أستطيع أن أعمل بما يظهر من الكلام على تقدير عدم كون المحذوف قرينة، وهو ما يسمّى اصطلاحا بالظهور التقديري. وهو أنه على تقدير وجود الجزء المحذوف لكان قرينة على خلاف الظاهر.

حجيّة الظهور التقديري في خصوص كتب الحديث المعتبر كاتبها بالخصوص:

لا شك أن الظهور التقديري ليس حجّة عند العقلاء والناس ولا اعتبار له عندهم. ألا ترى لو أن كتابا قد مزّق بعض أجزاء من صفحاته أو مزّق بعضه وبقي الآخر، واحتملت أن يكون الممزَّق قرينة على خلاف ظاهر الباقي، فإني لا استطيع العمل بظاهر الباقي. وقد ذهب إلى عدم الجواز المحقق القمّي (ره)، مما دفعه إلى القول بانسداد باب الاحكام، حيث إن الروايات أصبحت مجملة لكون الكثير منها مقطعا.

نقول: هذا من حيث الكبرى صحيح. إلا أن تطبيقه على ما نحن فيه من الروايات والكتب، ككتاب الكافي ومن لا يحضره الفقيه والاستبصار والتهذيب، وكتب ابن قولويه وكتب الكشي، غير تام، لان المقطعين أمثال الكليني والصدوق والطوسي (قده) وغيرهم هم في أعلى مراتب الأمانة والوثاقة، والظواهر كونها عقلائية كظهور لفظي وليس كحالات، فلا يمكن أن يقطعوا حديثا ويسقطوا بعضه إذا كان قرينة على الباقي لما نقل من الرواية.

وهذا فرق بين العمل بالمشهور الذي هو رأي، والذي هو عمل حدسي وليس حجّة علينا، أما نقله كما في ذكر جزء من الرواية هو شيء ظاهر وهو حجّة علينا، فإن هؤلاء لو قطعوا لا يمكن أن يضللوا الآخرين.

قد يقال: إن المسقط قد لا يكون بنظرهم قرينة على الباقي، ولذا حذفوه، لكنه قد يكون قرينة عندنا، فكيف يجوز لنا العمل بظهور الباقي؟

فإنه يقال: هذا صحيح، لكن القرائن على ظهورات مشتركة عند العقلاء فما يكون قرينة عنده يكون قرينة عندنا غالبا، خصوصا في القرائن اللفظية كما في الكتب.

هذا كله إذالم يكن للكلام ظهور.

وأما الحالة الثانية وهي تحقق الظهور للكلام، لكن احتملنا عدم كون الظاهر مرادا جديا، فهنا نعمل بالظهور ويكون حجّة لأصالة التطابق بين المراد الجدي والمراد الاستعمالي، وهو أصل عقلائي.

وقد ذكر السيد الخوئي (ره) أن لعدم حجيّة الظهور بعد تحققه، كالمنفصل، ثلاثة إحتمالات:

إما احتمال غفلة المتكلّم وهو أمر منفي بالنسبة للأئمة (ع).

نقول: لكنه احتمال يرجع إلى الحالة الأولى وهو احتمال الغفلة وهو منفي بالنسبة للعقلاء. أي أن أصل الظهور مشكوك وليس حجيّة الظهور هي المشكوكة،

وأما تعمد عدم ذكر قرينة لمصلحة فيه أو لمفسدة في الذكر.

وأما احتمال اتكاله على قرينة حاليّة أو مقاليّة متقدّمة أو متأخرة لم نظفر عليها بعد الفحص.

وفي الجميع لا يعتنى بالاحتمالات وتجري أصالة الظهور.


[1] الفرق بين الاستعمال والإرادة: أول من فصّل في ذلك على ما في بالي هو سلطان العلماء. فالاستعمال استخدام اللفظ للبيان، اما الإرادة فهي استعمال مع إرادة معناه أو معنى آخر ويكون استعمالا حقيقيا، من قبيل الدواعي الأخرى للإستعمال. مثلا ذكرناه سابقا على استعمنال سيارة "الروز رايز" التي كانت تعتبر سيارة للطبقة الغنيّة للإستعمال الشخصي فقط، شخص أراد أن يستعمل السيارة لنقل الركاب كاهانة للسيارة وللشركة بعد خلاف معها. في المثال الاستعمال صحيح وهو الاستعمال في نقل الركاب. الموضوع له آلة لنقل الركاب، والمستعمل فيه أيضا نقل الركاب، لكن الداعي والإرادة هو الإهانة. فالاستعمال شيء والمراد شيء آخر.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo