< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/06/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: أحكام الجماعة
تتمة الأمر الثالث : مناقشة الآراء التي قالت بجواز القراءة في الركعتين الأوليين في الصلاة الجهرية.
ذكرنا في الدرس الماضي أن ثمة الفقهاء العظام ذهبوا إلى جواز القراءة في الصلاة الجهرية في الركعتين الأوليين، واستدلوا على ذلك بالروايات التي ظاهرها حرمة القراءة، ومن تلك الروايات المباركة صحيحة زرارة، وهي – كما رواها صاحب الوسائل - بِإِسْنَادِهِ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ:) إِنْ كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ وَ أَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ وَ لَا تَقْرَأَنَّ شَيْئاً فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ‌ )وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ‌( - يَعْنِي فِي الْفَرِيضَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ‌ - ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )‌[1]- فَالْأَخِيرَتَانِ تَبَعاً لِلْأَوَّلَتَيْنِ(.[2]
تقريب الاستدلال عندهم عبارة عن :
أولاً - أن الإنصات أمر استحبابي، وبما أن ترك القراءة مقدمة له، فهي كذلك أمر استحبابي، وذلك أنه لا يعقل أن تكون مقدمة الأمر الاستحبابي واجبة، فعلى ذلك ترك القراءة ليس واجبا بل جائزا.
ثانياً – قول الإمام عليه السلام : ( ولا تقرأن شيئا من الآخيرتين )، ظاهر في الكراهة؛ وذلك أن القراءة في الركعة الثالثة والرابعة جائزة، ولما كان هذا القول معطوف على قوله عليه السلام : ﴿ فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ ﴾، ولما كان سياق الحديث سياقا واحداً متصلاً، فهذا يدل على أن القراءة جائزة في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، كما تجوز في الركعتين الآخيرتين.
ثالثا – قول الإمام عليه السلام : (فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ) معلل بقوله : (وَ أَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ)، وذلك لطلب الرحمة؛ لأنه عليه السلام قال : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ‌ )وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ‌( - يَعْنِي فِي الْفَرِيضَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ‌ - ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )، فترك القراءة مقدمة للإنصات، والإنصات مطلوب لأجل طلب الرحمة، وبما أن طلب الرحمة ليس واجبا، بل أمرا استحبابيا، وكذلك الإنصات أمرا استحبابيا، فترك القراءة الذي هي مقدمة كذلك يكون أمر جائزا.
بهذه الوجوه الثلاثة قرب القائلون استدلالهم على أن ترك القراءة في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية ليس أمر محرماً.
غير أن ما ذهبوا إليه ليس في محله، ولنا مناقشة في ما ذكروه من وجوه ثلاثة.
أولا – أن القول بأن الإنصات معلل بترك القراءة، وهو مقدمة له،هذا الكلام ليس في محله، وذلك أنه لا تعليل في المقام، بل هناك نهي وأمر، نهي عن القراءة، وأمر بالإنصات، وكلاهما أمران مستقلان، ولا إشكال في أن تكون القراءة محرمة، والإنصات مستحبا.
ثانياً – أننا لا نقبل أن الإنصات أمر مستحب؛ وذلك أنهم استدلوا على استحباب الإنصات بالإجماع والسيرة، غير أن هذا الاستدلال ليس تاما، لأن الإجماع منقول، والمنقول ليس بحجة، وثانيا أن الإجماع مدركي، ومن المعلوم أن الإجماع عندنا ليس حجة بما هو إجماع، بل هو حجة لما يكون كاشفا عن رأي المعصوم، لأنهم إذا أجمعوا على حكم للآية أو الرواية، فالحجة هي الآية أو الرواية، لا الإجماع. وأما السيرة فهي مجرد ادعاء.
ثالثا – أن الإنصات قد يكون بمعنى الإصغاء، وقد يكون بمعنى السكوت، والسكوت إما أن يكون بلا قول، وإما أن يكون مع القول الخفي، وعلى ذلك فلا يكون ترك القراءة مقدمة للإنصات إذا كان بمعنى السكوت، ولا وجه أن نقول إن المراد في قوله عليه السلام ( أنصت لقراءته ) هو الإصغاء.
هذا بالنسبة إلى الوجه الأول، أما الوجه الثاني حيث قيل فيه : إن النهي في قوله : (ولا تقرأن شيئا من الآخيرتين ) محمول على التنزيه؛ فنحمل النهي في قوله : ﴿ فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ ﴾، على التنزيه بحكم وحدة السياق، غير أنه ليس في محله؛ وذلك أن صيغة النهي – كما درسنا في الأصول – لا تدل، لا على الحرمة، ولا على الكراهة، بل هي تدل فقد على طلب الترك، والدلالة على الحرمة والكراهة إنما تستفاد من حكم العقل، فإذا ورد النهي، ولا تكون مقترنة مع ما يدل على أن المولى ليس جادا في طلب الترك، فيحكم العقل بأن النهي يدل على الحرمة، وإذا كانت ثمة قرينة تدل على الترخيص، فيحمل النهي على الكراهة. ومن هنا نقول أن النهي في كلا الموردين : ﴿ فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ ﴾، و ( فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْآخرتين )، يدل على طلب الترك فقط، غير أن قوله عليه السلام : ( فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ ) ظاهر في الحرمة، ليس لأجل دلالة صيغة النهي على الحرمة، بل للأدلة الأخرى، وكذلك قوله عليه السلام : ( فَلَا تَقْرَأَنَ‌ شَيْئاً فِي الْآخرتين )، ظاهر في الكرهة، ليس لأجل صيغة النهي، بل للأدلة الأخرى. بعبارة أخرى أن صيغة النهي في قوله عليه السلام في الموردين تدل على طلب الترك، غير أن المراد من طلب الترك في المورد الأول هو الحرمة، وفي المورد الثاني الكراهة.
وأما ما ذهبوا إلى أن طلب الرحمة أمر استحبابي، لأنه جلب المنعفعة، وجلب المنفعة ليس واجبا، بل إنما الواجب هو دفع العذاب، هذا ليس في محله؛ وذلك أن من يتأمل في كتاب الله تعالى يدرك بكل سهولة أن رحمة الله يقابلها عذاب الله، ولا حالة ثالثة في البين، فإما أن يكون الإنسان مرحوما، وتحت ظل رحمة الله تعالى، أو يكون معذباً، نقدم هنا بعض الآيات المباركة لمزيد التوضيخ، منها قوله تبارك وتعالى : ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [3]
نرى أن الله تبارك وتعالى وصف المؤمنين الذين يقومون بوظيفة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وصفهم بأنهم مرحومون، وهذا يؤكد على من لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر، ولا يصلى، ولا يؤتي الزكاة، ليس مرحوما، بل معذبا.
وقوله تعالى : ﴿قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ[4] تصرح الآية بأن المعصية تؤدي إلى العذاب، ومن هنا فمن لم يعص ويقوم بما أمر به، يكون في ظل رحمة الله تعالى.
وقوله تعالى : ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[5] تؤكد الآية المباركة أن من وقاه الله تعالى من السيئات فاز برحمته، فتدل بالمفهوم أن من لا يقيه الله، يعذب يوم القيامة.
فهذه الآيات المباركة وغيرها مما تعرضت إلى ذكر رحمة الله تعالى أو إلى عذابه جل شأنه، تؤكد على أن الرحمة والعذاب متقابلان، فإما أن يكون الإنسان مرحوما، وإما أن يكون معذبا، فمن هنا لا وجه للقول بأن طلب الرحمة ليس واجبا، فكما يجب على الإنسان أن يدفع العذاب عن نفسه بالأعمال الصالحة، فكذلك يجب عليه أن يطلب الرحمة.
ويبطل - بما ذكرنا - ما اختاروا في صحيحة زرارة التي ورد فيها : ( إِذَا كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ تَأْتَمُّ بِهِ فَأَنْصِتْ وَ سَبِّحْ‌ فِي‌ نَفْسِكَ‌).[6] فاستدلوا على أن القراءة ليست محرمة، لأنها مقدمة للإنصات، ولما كان الإنصات أمر استحبابيا، فلا يعقل أن تكون مقدمته واجبة. فما قالوه في المقام، ليس في محله، أولا – بما ذكرنا من أن الإنصات ليس معللا، ثانيا – أن في خصوص هذه الرواية لم يرد ذكر القراءة، ليكون تركها مقدمة للتمكن من إنصات قراءة الإمام.
وبعد كل ما ذكرنا يمكن القول، أن هذه الروايات كلها تدل على حرمة القراءة في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، وما استدلوا بها في المقام على أنها تدل على الكراهة، ليس في محله.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo