< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

42/07/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: التفسير الموضوعي/تفسير الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير أيات 153 الي 157من سورة البقرة

كان بحثنا في الآيات المصدرة بقوله يا ايها الذين آمنوا في المقطع الذي اخترناه من سورة البقرة حيث قال الله تعالى: ﴿"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ . وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾[1]

انتهينا عن الكلام حول الآية الاولى والثانية بشكل عابر حرصاً على التقدم، واليوم نتناول الآية الثالثة من هذا المقطع بالبحث وهو قول الله تعالى:

"﴿وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ"﴾[2] بعد ما تحدث ربنا تعالى معنا حول الصبر والصلاة و بَشَّرَ الصابرين و طَمْئَنَ المقتولين في سبيل الله بالحياة السعيدة: تطرّق الى مسألة أساسية في الرؤية الكونية رفضاً لكثير من الناس حيث ينظرون الى الحياة بانها هي الهدف الاسمى او هي جزء من الهدف في خلقة البشر وهذه الرؤية تترتب عليها شبهات واسعة حول عدل الله وحكمته و وتدبيره وعلمه.

وهذه الرؤية الخاطئة منتشرة في كثير من المجتمعات الإنسانية ولذلك يرون واجب الانسان ان يحصر همته في الحصول على معيشة لذيذة مرفهة وواجب الحكومات انما هو في تامين المشرب والمأكل والملبس والمسكن للشعوب، حتى يقيّمون المسائل الأخلاقية والمعنوية من منظر الدنيا أي للحصول على عيشة سعيدة في هذه الدنيا. ومن هذا المنظر لا يمكن توجيه معقول لما يجري في الطبيعة من العواصف والسيول والامراض بل الحر والبرد لان كل ذلك مخل بالمعيشة المادية للإنسان فالإنسان يرى نفسه في بؤس وشقاء حتى هؤلاء الأثرياء لا يشعرون بالتنعم والراحة بل كلما يزداد ثروتهم يزيدهم هما وغما وتعباً.

ولكن الإسلام والأديان السماوية يرون الدنيا مقدمة للوصول الى الكمال المنشود وليس هي الهدف ولذلك اعتبرت الروايات الدنيا قنطرة الآخره او الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر، او مطيّة للوصول الى الآخرة، والبلاء معناه الامتحان وهذه الدنيا دار بالبلاء محفوفة أي كلها أسئلة إمتحانية نتعرض لها الانسان قال تعالى: ﴿"أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ"﴾ (العنکبوت2-3)

وقال تعالى: ﴿"مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ"﴾ (آل عمران 179)

وفي هذا المقطع من سورة البقرة بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل اللّه، والحياة الخالدة للشّهداء، ومسألة الصبر والشكر ... وكلّها من مظاهر الاختبار الإلهي، تعرضت هذه الآية لبعض مصاديق الاختبار الإلهي التي يواجهها عامة الناس، ولمظاهره المختلفة، فقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ﴾. وبما ان الانتصار في هذه الاختبارات لا يتحقق الا بالصبر والثبات والمقاومة، خصص البشارة بالصابرين بقوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾

فالدنيا للناظر اليها بهذه الرؤية كلها خير وبركة،

مثلها مثل من ينظر الى باص كبير صنعت للسفر كغرفة للراحة فهو يرى فيها إشكالات كثيرة من ناحية هندستها وامكانياتها ولكن من ينظر اليها كمركب جماعي للنقل يراها مركب مريح متطور.

وقد ورد في نهج البلاغة كلام جميل يوَضّح لنا أهمية الدنيا وبركاتها لمن يجعلها وسيلة للصعود الى الله واليك نص كلامه عليه السلام: "قَالَ عليه السلام وَقَدْ سَمِعَ رَجُلًا يَذُمُّ الدُّنْيَا: "أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا الْمُنْخَدِعُ بِأَبَاطِيلِهَا، أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا؟ أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ؟ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ؟ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى؟ كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وَمَرَضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الْأَطِبَّاءَ غَدَاةَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَلَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطِلْبَتِكَ وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ وَقَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ؟ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اكْتَسَبُوا‌ فِيهَا الرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ، فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَ قَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَ نَادَتْ بِفِرَاقِهَا وَ نَعَتْ نَفْسَهَا وَ أَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلَائِهَا الْبَلَاءَ وَ شَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَ ابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ تَرْغِيباً وَ تَرْهِيباً وَ تَخْوِيفاً وَ تَحْذِيراً فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ وَ حَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَذَكَرُوا وَ حَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَ وَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا"[3]

في هذه الخطبة المباركة قد بين المولى عليه السلام مواطن الوعظ والاتعاظ في هذه الدنيا فالدنيا مدرسة لصناعة الانسان فكلها آيات ودروس ودلالات لمن أراد ان يرتقي ويهتدي ولكن الخاسر من ركن اليها. ولذلك قارن الامام عليه السلام بين هؤلاء المستفيدين من الدنيا ويذكر للدنيا ثمانية فضائل وبين هؤلاء الراكنين اليها فيذكر حالة الطائفة الثانية بانهم يذمونها يو الندامة أي بعد خروجهم من الدنيا و يذكر الطائفة الأولى بانهم يحمدون الدنيا في يوم القيامة عند ما يجنون ما زرعوا من الخير. وعلى كل حال تستحق هذه الخطبة الرصينة والدقيقة الى الوقوف عند كل كلمة منها لاستيعاب رسالاتها ومعانيها السامية.

ولهذا البحث مجال واسع ومناحي جميلة نتعرض لبعضها ان شاء الله في الأسابيع القادمة. ‌


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo