< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

43/09/13

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآيات 2-5من سورة المائدة

 

قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[1]

قد تحدثنا في الليلة الماضية حول المقطع الأول من هذه الآية المباركة حيث تحدث معنا في لحوم المحرمة، اما في المقطع الثاني من الآية هو قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ هذا التعبير ينادي بكل وضوح انه يتحدث عن عصر أصبحت الدولة الإسلامية مستقرة اعترف بها الداني والقاصي وبما ان كيان هذه الدولة المباركة كيان ديني وليس مجرد انتقال القدرة من دولة الى دولة بل هناك تأسيس نظام على أسس تختلف تماما مع ما كانت في سائر الأنظمة الموجودة في ذاك العصر وهذا الذي كان يثير الآخرين لم يكن وصول القدرة من مثلا أبو سفيان الى محمد صلى الله عليه واله بل الشيء الذي اجتمع عالم الكفر والأحزاب لمخالفته كان نقض جميع مباني القدرة في ذاك العصر وانشاء شيء لم يسبق عندهم وما لا يلائم مع ما تعوّدوا عليه في كيانات ملوك الطوائفية. ولكن رغماً عليهم جميعاً، انتصر الإسلام على الكفر واضطروا ان يعترفوا به.

نظيره في هذا العصر الثورة الإسلامية حيث قضت واجهزت على النظام الشاهنشاهي التي كانت لها جذور منذ الفين وخمسمئة عاماً من التاريخ. كما انه لم يسبق لها نظير بعد حكومة امير المؤمنين عليه السلام بان ينشأ دولة قوية عاصية على جميع المستكبرين في العالم واجتمع جميع قوى الطاغوتية لإسقاطها وصبوا عليها جميع ويلاتهم وليس فقط لم يسقط، بل زاد قوة ومنعة وتطويرا ومثيرا لسائر الشعوب للخروج عن هيمنة المستكبرين وداعماً لكل الحركات التحريرية السليمة وهم مستمرين في محاولاتهم في التخريب عليها ومحاربتها بكل قوة ويتلقون منها الهزيمة والفشل في محاولاتهم ويذوقون الم الخسارات الكثيرة المادية والمعنوية.

ونحن كذلك مخاطبون في هذا العصر بقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ فالخطر المحدق بنا ليست هجمة الأعداء المباشرة، بل الخطر كامن فينا أنفسنا من عدم الالتزام بالقيم والتنازع على الكراسي وقلة الصبر والشكر، عدونا لما يأس من ان ينالنا بضربات عسكرية توجه الى الحروب الناعمة من اثارة الفتنة في ما بيننا وتفريقنا بأحزاب وتيارات و كتل متناحرة او تقسيمنا على حسب التنوع المذهبي والعرقي فعلينا ان نتمسك بجبل الله جميعا ولا نتفرق ونُذكّر انفسنا بأيّام البعثيين والصدام اللعين من الاختناق والخوف والاحتقار ونقارن بين حريات التي وهبها الله لنا وما كنا عليه سابقاً فنتكاتف فيما بيننا على مصالح الوطن و نبذ المحتل الأمريكى من المنطقة كما اكد على ذلك الامام الخامنئي حفظه الله ومد في عمره.

ثم جاءت الآية بمفردة اليوم الله مرة أخرى لتبيّن ثلاث نعم اخرى كبيرة انعم الله بها علينا مضافاً الى يأس الاعداء فقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾.

هنا ذكر المفسرون في المراد من اليوم الذي ذكر في الآية وجوه واقوال:

(أحدها) أن المراد يوم عرفة في حجة الوداع ومعناه: أكملت لكم فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي بتنزيلي ما أنزلت وبياني ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم وهذا القول نسب الى ابن عباس والسدي واختاره الجبائي والبلخي قالوا ولم ينزل بعد هذا على النبي ص شي‌ء من الفرائض في تحليل ولا تحريم وأنه مضى بعد ذلك بإحدى وثمانين ليلة.

(وثانيها) أن معناه‌ اليوم أكملت لكم حجكم وأفردتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين ولا يخالطكم مشرك عن سعيد بن جبير وقتادة واختاره الطبري قال لأن الله سبحانه أنزل بعده ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾ قال الفراء: وهي آخر آية نزلت وهذا الذي ذكره لو صح لكان لهذا القول ترجيح لكن فيه خلاف.

(وثالثها) أن معناه اليوم كفيتكم الأعداء وأظهرتكم عليهم كما تقول الآن كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد بأن كفينا ما كنا نخافه عن الزجاج.

ورابعها: قال الربيع بن أنس نزلت في المسير في حجة الوداع ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ خاطب سبحانه المؤمنين بأنه أتم النعمة عليهم بإظهارهم على المشركين ونفيهم عن بلادهم عن ابن عباس وقتادة.

وخامسها: قيل معناه أتممت عليكم نعمتي بأن أعطيتكم من العلم والحكمة ما لم يعط قبلكم نبي ولا أمّة.

وسادسها: قيل إن تمام النعمة دخول الجنة ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾ أي رضيت لكم الإسلام لأمري والانقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه دينا أي طاعة منكم لي والفائدة في هذا أن الله سبحانه لم يزل يصرف نبيه محمدا وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه درجة بعد درجة ومنزلة بعد منزلة حتى أكمل لهم شرائعه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ثم قال رضيت لكم الحال التي أنتم عليها اليوم فالزموها ولا تفارقوها.

سابعها: المروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنه إنما أنزل بعد أن نصب النبي صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام للأنام يوم غدير خم منصرفه عن حجة الوداع قالا: وهو آخر فريضة أنزلها الله تعالى ثم لم ينزل بعدها فريضة ويوافق هذا القول ما رواه أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص لما نزلت هذه الآية قال الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي وقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله‌. وكذلك ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره قال حدثني أبي عن صفوان عن العلاء ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال كان نزولها بكراع الغميم فأقامها رسول الله ص بالجحفة.[2]

بديهي أنّه ليس المراد من اليوم يوم نزول أحكام حرمة اللحوم فهي لا توجب إعطاء تلك الأهمية العظيمة، ولا يمكن أن تكون سببا لإكمال الدين، مضافا الى ان هذه الاحكام سبق نزولها في المكة في سورة النعام والنحل وفي المدينة في سورة البقرة أوائل دخول النبي صلى الله عليه واله فيها فلم تكن آخر الأحكام التي نزلت على النّبي صلّى اللّه عليه و آله، كما لا يمكن القول بأن الأحكام المذكورة هي السبب في يأس الكفار، بل إنّ ما يثير اليأس لدى الكفار هو إيجاد دعامة راسخة قوية لمستقبل الإسلام، و بعبارة أخرى فإنّ نزول أحكام الحلال و الحرام من اللحوم لا يترك أثرا في نفوس الكفار، فما ذا يضيرهم لو كان بعض اللحوم حلالا و بعضها الآخر حراما؟!

اما كون المراد من اليوم في هذه الآية يوم عرفة من حجّة الوداع، آخر حجّة قام بها النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم (كما احتمله بعض المفسّرين)؟

هو أيضا لا ينسجم مع مضمون الآية ، لأنّ الدلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا التّفسير، حيث لم تقع أيّ حادثة مهمّة في مثل ذلك اليوم لتكون سببا ليأس الكفار ولو كان المراد هو حشود المسلمين الذين شاركوا النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في يوم عرفة، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في مكّة قبل هذا اليوم أيضا، ولو كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم، فلم تكن الأحكام تلك شيئا مهمّا مخيفا بالنسبة للكفار.

اما جعل المقصود من «اليوم» يوم فتح مكة (كما احتمله البعض)؟ ينقضها أنّ سورة المائدة نزلت بعد فترة طويلة من فتح مكة! أو ان جعلنا المراد من اليوم يوم نزول آيات سورة البراءة، ولكنها نزلت قبل فترة طويلة من سورة المائدة.

والأعجب من كل ما ذكر هو قول البعض بأن هذا اليوم هو يوم ظهور الإسلام وبعثة النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مع أن هذين الحدثين لا علاقة زمنية بينهما وبين يوم نزول هذه الآية مطلقا وبينهما فارق زمني بعيد جدّا.

وهكذا يتّضح لنا أنّ أيّا من الاحتمالات الستة المذكورة لا تتلاءم مع محتوى الآية موضوع البحث.

و يبقى لدينا احتمال أخير وهو القول بان المراد من اليوم في هذه الآية يوم الغدير كما ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم و عليه روايات كثيرة، و هو يتناسب تماما مع محتوى الآية حيث يعتبر «يوم غدير خم» أي اليوم الذي نصب النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا أمير المؤمنين عليه السّلام بصورة رسمية و علنية خليفة له، وهو الذي صار سببا ليأس المشركين والمنافقين حيث قد ان فرقة منهم كانوا يتوقعون زوال دين الإسلام بوفاة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و إعادة عهد الجاهلية، وفريق منهم كانوا يتربصون الفرصة ان يحكموا على المسلمين باسم الإسلام و يتسلقوا منبر رسول الله صلى الله عليه واله دون معارض فيحكموا بمثل ما يحلو لهم من تمكين اقربائهم واصدقائهم على الأمور وتغيير القيم والأعراف بحيث يحصلوا على ما يريدون من حظ الدنيا، لكنّهم حين شاهدوا أنّ النّبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريداً بين المسلمين في علمه و تقواه و قوته و عدالته، و هو علي‌ بن أبي طالب عليه السّلام، و رأوا النّبي و هو يأخذ البيعة لعلي عليه السّلام أحاط بهم اليأس من كل جانب، و فقدوا الأمل فيما توقعوه من شر لمستقبل الإسلام و أدركوا أن هذا الدين باق راسخ.

ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملا، إذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبي صلّى اللّه عليه وآله كان يذهب الامور بعد النبي صوب الإهمال والإنحراف ولم يبق مستقبل للأمّة الإسلامية، قائماً للشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه واله فإكمال الدين كان متوقفا بما يخلده ويضمن مستقبله ولا يمكن ذلك الا باستمرار ولاية على نمط ما كان عليه رسول الله الى يوم القيامة.

نعم في يوم غدير خم أكمل اللّه وأتمّ نعمته بتعيين علي عليه السّلام، هذه الشخصية اللائقة الكفوؤة، قائدا وزعيما للأمة بعد النّبي صلّى اللّه عليه وآله.

نعم يوم غدير يوم أكمل الله للمسلمين دينهم واتم لهم النعمة الكبرى ورضي لهم الإسلام ديناً.

لا يقال: ان الانحراف والميل الى الدنيا ودس ما ليس من الدين في الدين ار حصل فعلا في الامة الإسلامية فاين مشروع استمرار الإسلام على سكته التي رسمها رسول الله؟

نقول: الانحراف امر طبيعي حتى في عهد رسول الله صلى الله عليه واله وهو ناشئ عن أغراض فاسدة او سوء فهم من البعض ولكن الذي تم في الغدير ترسيم محور وميزان للحق والباطل وهو نصب معصومين بدوا بعلي بن ابي طالب سلام الله عليه و ختماً بالإمام الثاني عشر حتى لو أرادوا الامة الإسلامية الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه واله من عند الله يراجعوا الى المعصوم كي يعصموا عن الخطاء و يعودوا الى رشدهم فيملأ الله به الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملأت ظلما وجورا عجل الله فرجه و سهل الله مخرج وجعلنا الله من اعوانه وانصاره قبل ظهوره وبعد ظهوره بمنه وكرمه انه حميد مجيد

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo