< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

43/09/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين أمنوا /تفسير الآيات 2-5من سورة المائدة

 

متابعة لما هو مكمل للآية الأولى من سورة المائدة حيث قال: ﴿احلت لكم بهيمة الانعام الا ما يتلى عليكم﴾[1] ناتي الى الآية الرابعة منها حيث قال تعالى:

﴿يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ﴾[2]

في بدء الكلام نقف عند بعض مفردات الآية قال في المجمع:

(إكلاب الكلب هو إغراؤه بالصيد وإيساده يقال كلب وأكلبته كما يقال أسد وأسدته ويحتمل أن يكون من أكلب الرجل إذا كثرت كلابه... ‌الطيّب هو الحلال وقيل هو المستلذ، والجوارح الكواسب من الطير والسباع والواحدة جارحة وسميت جوارح لأنّها تكسب أربابها الطعام بصيدها يقال جرح فلان أهله‌ خير إذا كسبهم خيرا وفلان جارحة أهله أي كاسبهم ولا جارحة لفلانة أي لا كاسبة لها)[3]

وقيل سمي الجوارح جوارحا لأنها تجرح صيده.

اقول: فی مفردة الطيّب اذا كان المتكلم بصدد بيان الحكم الشرعي فالطيّب بمعنى الحلال شرعاً واذا كان بصدد بيان ملائمته مع الطبع فالطيّب بمعنى اللذيذ والملائم للطبع. وفي الآية يفيد معنى اللذيذ وما يلائم مع الطبع.

في شأن النزول ذكر في المجمع قولين: (عن أبي رافع قال جاء جبرائيل إلى النبي ص يستأذن عليه فأذن له و قال قد أذنّا لك يا رسول الله قال أجل و لكنا لا ندخل بيتا فيه كلب قال أبو رافع فأمرني رسول الله أن أقتل كل كلب بالمدينة فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها و جئت إلى رسول الله ص فأخبرته فأمرني فرجعت و قتلت الكلب فجاءوا فقالوا يا رسول الله ص ما ذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتل كلبها فسكت رسول الله فأنزل الآية فأذن رسول الله في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيها وأمر بقتل العقور وما يضر و يؤذي‌).[4] مضمون هذه الرواية مستبعد ولكن على كل حال ليس لها سند صحيح.

ثم ذكر رواية أخرى وهي: (وعن أبي حمزة الثمالي والحَكمْ بن ظهيرة أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله ص فقالا إن فينا رجلين لهما ستة أكلب تأخذ بقرة الوحش والظباء فمنها ما يدرك ذكاته ومنها ما يموت وقد حرم الله الميتة فما ذا يحل لنا من هذا فأنزل الله «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» وسماه رسول الله ص زيد الخير).[5]

بعد ما مرت بنا آيتين الآية الأولى نهى عن تحليل خمسة أمور شعائر الله، شهر الحرام ، الهدي ، القلائد، وامين البيت الحرام، وذكر تحليل الصيد بعد الخروج من الإحرام، ثم نهى المؤمنين عن الإعتداء على الحجاج غير المسلمين تقاصّاً عن منع المسلمين عن الحج قبل فتح مكة ثم امر بالتعاون على البِرّ والتقوى ولعل ذكر التقوى منضماً الى البرّ لان الانسان قد يقوم بأعمال صالحة وبنيات سيئة فحسن الفعلي غير كاف في عمل المؤمن بل لابد من حسن الفاعلي أيضاَ فان البرّ إذا لم يكن على مبنى التقوى كمن يرائي في عمله او يتصدق مع المن والاذى بالنسبة الى المتصدق اليه فيصبح عملا سلبيا وقبيحاً. وبعد الامر بالتعاون على البر والتقوى نهى عن التعاون على الاثم والعدوان مباشرة ولعل السر في هذا التوالي ان كثيراً ما هؤلاء الذين يتناسقون بينهم لمشروع ليتعاونوا على البر والتقوى فيأتي الشيطان يغريهم ويدفعهم على ان يتعصبوا لفريقهم و يجلبوا كل خيرات لهم و يُقصي الآخرين، كما انّ المنتمين الى الأحزاب السياسية حتى المجموعات الثقافية يريدون كل شيء للمنتمين الى حزبهم و فريقهم وفي الانتخابات يفضّلون من ينتمي الى حزبهم على الغير ولو كان ذاك الغير افضل و ارجح، فينبغي من يشكِّلُ منظّمة او حزباً ان يجعل مجموعته لخدمة عامة الناس ويسعى لخير الجميع لا ان يخرّب على الآخرين على حساب حزبه وتيّاره.

في الآية التي بعدها بيّن حرمة احدى عشر قِسماً من اللحوم الا في المخمصة وأتى بينهما بجملة اعتراضية في مسألة الإمامة والولاية.

في هذه الآية بدء بذكر ما هو حلال: فقال: ﴿يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ؟ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ ...

قال في الميزان: (إطلاق الطيّب أيضا من غير تقييده بشي‌ء يوجب أن يكون المعتبر في تشخيص طيبه استطابة الأفهام‌ المتعارفة ذلك فما يستطاب عند الأفهام العادية فهو طيّب، وجميع ما هو طيّب حلال) [6] فيستفاد من هذه الآية كل ما يعتبره العرف طيّباً فهو حلال الّا ما خرج بالدليل، فيُكشَف خطأ العرف فيه. وهذا يوافق اصالة الحل في الأشياء ما لم يرد عليه نهي. فكل شيء مطلق حتى ورد فيه نهي وكل شيء حلال حتى تعرف انه حرام بعينه فيجوز اجراء هذه القاعدة وهي تسمى بأصالة الحل لعامة الناس في الموضوعات واما في الاحكام فإجرائها خاص بالمجتهدين بعد الفحص واليأس عن المخصص والمقيِّد.

ثمّ تناولت الآية حكم الصيد الحلال، فأشار إلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده الحيوانات المدرَّبَة فحكم بحليّته، بقوله: ﴿وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾.

وجملة وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ تشمل كل الحيوانات المدرّبة على‌ الصيد، ولكن كلمة «مكلّبين» التي تعني تدريب الكلاب للقيام بأعمال الصيد، والمشتقة من مادة «كلب»، تُقيِّد هذه الجملة وتُخصِّصُها بكلاب الصيد، ولذلك فإنّها لا تشمل الصيد بحيوانات غير هذه الكلاب مثل الصقور المدرّبة على الصيد وامثاله.

ولذلك ذهب فقهاء الشيعة إلى تخصيص الصيد الحلال بما يصطاده كلاب الصيد، لكن جمع من علماء السنّة ومفسّريهم ذهبوا إلى جواز اكل صيد جميع الجوارح وأعطوا تفسيراً واسعاً لعبارة «مكلبين» ولم يخصّصوا ذلك بكلاب الصيد فقط.

وهنا نعرض عليكم نماذجاً من أحاديث ورد في الموضوع:

روى الصدوق فِي مَنْ لَا يَحْضُرُهُ الْفَقِيهُ عن مُوسَى بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ إِنْ أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ وَ سَمَّى فَلْيَأْكُلْ كُلَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْهِ وَ إِنْ قُتِلَ، وَ إِنْ أَكَلَ فَكُلْ مَا بَقِيَ، وَ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَعَلَّمَهُ سَاعَتَهُ حِينَ يُرْسِلُهُ فَلْيَأْكُلْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُعَلَّمٌ، فَأَمَّا مَا خَلَا الْكِلَابَ مِمَّا تَصِيدُهُ الْفُهُودُ وَ الصُّقُورُ وَ أَشْبَاهُهُ إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَوتَهُ.[7]

وفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ وَالْفُهُودِ وَالْكِلَابِ؟ قَالَ لَا تَأْكُلْ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ إِلَّا الْكِلَابَ، قُلْتُ فَإِنْ قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلْ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ ﴿وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلُّ شَيْ‌ءٍ مِنَ السِّبَاعِ تُمْسِكُ الصَّيْدَ عَلَى نَفْسِهَا إِلَّا الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ فَإِنَّهَا تُمْسِكُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَقَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ ذَكَوتُهُ، [8] الحديث

أمّا عبارة ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ فإنّها تشير إلى عدّة أمور هي:

إنّ تدريب مثل هذه الحيوانات يجب أن يستمر ويستفاد ذلك من فعل المضارع،

2- يجب أن يتمّ تدريب هذه الكلاب وفق الأصول الصحيحة التي تتلاءم مع مفهوم العبارة القرآنية ﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله﴾

لا يخفى أنّ الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد، يجب أن يُذبح وفق الطريقة الشرعية إن جلب حيّاً، وإن مات الحيوان قبل دركه فلحمه حلال وإن لم يُذبح.

وأخيرا أشارت الآية الكريمة إلى شرطين آخرين من شروط تحليل مثل هذا النوع من الصيد.

أوّلهما: أن لا يأكل كلب الصيد من صيده شيئاً، حيث قالت الآية: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ ولعل السر في ذلك اذا اكل الكلب من الصيد فيكتشف انه أمسك الصيد لنفسه لا لصاحبه.

وعلى هذا الأساس فإن الكلاب لو أكلت من الصيد شيئاً قبل إيصاله إلى صاحبها، وتركت قسماً آخر منه، فلا يحلّ لحم مثل هذا الصيد ويدخل ضمن حكم ﴿ما أَكَلَ السَّبُعُ﴾ الذي ورد في الآية السابقة، وهناك فقهاء لم يذكروا هذا شرط، مستندين إلى روايات وردت في مصادر الحديث صرحت بجواز اكل بقية مأكول الكلب من الصيد والجمع بين الروايات وعلاجها واستنباط الحكم خارج عن حوصلة البحث فمن يرغب عليه ان يراجع المصادر الفقهية في باب الصيد.

والأمر الثّاني: هو ضرورة ذكر اسم اللّه على الصيد بعد أن يتركه الكلب، حيث قالت الآية: ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾

ان الله تعالى أكمل الآية بعد ذكر الحكم بقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ﴾ داعية إلى الإتقاء من اللّه الذي هو سريع الحساب.

ان صاحب الميزان الفت انتباهنا الى نقطة دقيقة فقال في قول الله: ﴿وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ﴾ إشعاراً بلزوم اتقاء الله فيه حتى لا يكون الاصطياد إسرافاً في القتل، و لا عن تَلَهٍ و تجبُّر كما في صيد اللهو و نحوه فإن الله سريع الحساب يجازي سيئة الظلم و العدوان في الدنيا قبل الآخرة، و لا يسلك أمثال هذه المظالم و العدوانات بالاغتيال و الفك بالحيوان العجم إلا إلى عاقبة سوأى على ما شاهدنا كثيرا).[9] وهذا تنبيه جميل.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo