< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

43/09/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآية7من سورة المائدة

 

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‌ أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[1]

قد تحدثا حول هذه الآية المباركة في الليالي الماضية حول الوضوء والغسل وموارد التيمم والليلة معكم في كيفيّة التيمم قال الله تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ هنا استفاد من الباء في الوجوه كما استفاد في تعريف تعليم الوضوء من الباء في مسح الرؤوس فقال: ﴿وامسحوا برؤوسكم﴾ فقلنا ان الباء للتبعيض فلا يجب مسح جميع الرأس بل يكفي مسح شيء من مقدم الرأس هنا كذلك بما استعمل الباء في الوجوه فنقول يكفي شيء من الوجه للمسح في التيمم وقد شخّصه السنة أي الروايات بكفاية مسح الجبين من منبت الشعر الى فوق الحواجب.

فالتيمم في الحقيقة وضوء أسقطت فيه المسحتان: مسح الرأس ومسح الرجلين، وأبدلت فيه غسلتان: غسلة الوجه واليدين إلى المرفقين بالمسحتين، وأبدل الماء بالتراب تخفيفا.

ولكن بوجود الباء خصص المسح من الوجه بالجبين ومسح اليد بظهر الكف الذي هو جزء من اليد واصل التبعيض نص القرآن ومقداره وكيفيته تكفل بهما السنة وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعض العامة من تحديد اليد بما دون الإبطين. وما ذكره آخرون أن المعتبر من اليد في التيمم عين ما اعتبر في الوضوء وهو ما دون المرفق، وذلك أنه لا يلائم المسح المتعدي بالباء الدال على مرور الماسح ببعض الممسوح.

و «مَنْ» في قوله: ﴿وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ كأنها ابتدائية والمراد أن يكون المسح بالوجه واليدين مبتدأ من الصعيد، وقد بينته السنة بأنه بضرب اليدين على الصعيد ومسحهما بالوجه واليدين.

قوله تعالى: ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ دخول «مِنَ» على مفعول «ما يُرِيدُ» لنفي الحرج حتى القليل منه، فما أراد الحرج في توجيه الأحكام الدينية الى المكلفين ابداً.

والحرج على قسمين: القسم الأول: ما يكون في طبيعة الحكم ومصلحته موقوف عليه، كما ان بعض اهل المعنى يجانبون عن بعض المشتهيات النفس المحللة لتربيتها وتقويتها ففي هذه الموارد احراج النفس هو المطلوب وقامت به المصلحة المنشودة، كالصوم الذي هو الإمساك عن كثير من مشتهيات النفس.

القسم الثاني: وحرج يحصل من أسباب اتفاقية كالمريض الذي يقع في حرج من الصوم فوق المتوقع فيسقط عنه الصوم، كذلك من يتحرج عن القيام في الصلاة لضعف في جسمه او مرض طرأ عليه، يسقط عنه حينئذ وجوب القيام في صلاته.

فقوله تعالى: ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾، يدل على أن المراد من جعل الاحكام ليس احراجكم بل المراد هو تطهيركم و اتمام النعمة عليكم ولذلك لما وجدنا الوضوء و الغسل حرجيين عليكم عند فقدان الماء انتقلنا من إيجاب الوضوء و الغسل إلى إيجاب التيمم الذي هو في وسعكم، من دون رفع حكم الطهارة لإرادة تطهيركم و إتمام النعمة عليكم ولعلكم تشكرون.

وخلاصة الكلام أن تشريع الوضوء والغسل والتيمم إنما هو حصول الطهارة فيكم لكونها أسبابا لذلك، وهذه الطهارة أيا ما كانت ليست بطهارة عن الخبث بل هي طهارة معنوية حاصلة بأحد هذه الأعمال الثلاثة، وهي التي تشترط بها الصلاة في الحقيقة.

وبما ان الطهارة حاصلة ما لم تنتقض فيمكن أن يستفاد من ذلك عدم وجوب الإتيان بعمل الطهارة عند القيام إلى كل صلاة إذا كان المصلي على طهارة غير منقوضة، ولا ينافي ذلك ظهور صدر الآية في الإطلاق لأن التشريع أعم مما يكون على سبيل الوجوب.

وأما قوله. ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾، فقد مر معنى النعمة وإتمامها في الكلام على قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾[2] فالمراد بالنعمة في الآية هو الدين لا من حيث أجزائه من المعارف والأحكام، بل من حيث كونه إسلام الوجه لله في جميع الشئون، وهو ولاية الله على العباد بما يحكم فيهم، وإنما يتم ذلك باستيفاء التشريع لجميع الأحكام الدينية التي منها حكم الطهارات الثلاث.

ومن هنا يظهر أن بين الغايتين أعني قوله: ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ وقوله: ﴿لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ﴾ فرقا، وهو أن الطهارة غاية لتشريع الطهارات الثلاث بخلاف إتمام النعمة، فإنه غاية لتشريع جميع الأحكام، وليس للطهارات الثلاث منها إلا سهمها، فالنسبة بين الغايتين عموم مطلق.

والظاهر ان إتمام النعمة هو الميثاق الذي كان مأخوذا منهم على الإسلام المذكور في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَميثاقَهُ الَّذي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾[3] فإنه السمع المطلق، و الطاعة المطلقة، وهو المواهب الجميلة التي وهبهم الله سبحانه إياها في شعاع الإسلام، و هو التفاضل الذي بين حالهم في جاهليتهم و حالهم في إسلامهم من الأمن و العافية و الثروة و صفاء القلوب و طهارة الأعمال كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى‌ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها﴾[4] .

ولا يخفي أن المراد بكون النعمة هي الإسلام بحقيقته أو الولاية أنما هو تعيين المصداق دون تشخيص مفهوم اللفظ، فإن المفهوم هو الذي يشخصه اللغة، ولا كلام لنا فيه.

ولكن اود ان أقف شيئا مّا على المقطع الأخير من الآية حيث قال:

﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾

في هذا المقطع من الآية المباركة بيّن مسألة اعتقادية فلسفية لو عرفناها حق معرفتها لاستقبلنا كل ما امرنا الله به غرير العين ورحيب الصدر ولن نشعر بكلفة في التكاليف الشرعية.

بما ان الله هو الغني المتعال يستحيل عقلا ان يريد احراجنا وايذائنا نستجير به من المزاعم الباطلة فانه لا ينتفع بأعمالنا ولا يتلذذ بإتعابنا ولا تضرّه معاصينا له كي أراد أن يقتصّ منّا.

فهذا المقطع تبيّن قانونا عامّا معناه أنّ أحكام اللّه ليست تكاليف شاقّة أبدا، ولو كان في أي حكم شرعي عسر او حرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث، وكذلك ورد في سورة الحج قوله تعالى: ﴿وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبيكُمْ إِبْراهيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَ في‌ هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى‌ وَ نِعْمَ النَّصيرُ﴾[5]

ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أي فرد بسبب مرض أو شيخوخة او ما شابه ذلك، لسقط عنه ويتبدل الى قضائه إن كان عنده عذر مؤقت وان كان العذر مستمرا فيتبدل الى دفع مبلغ يسيرة بعنوان فدية الصوم.

نعم هناك من الأحكام في طبيعتها الصعوبة والمشقة كالجهاد، والصوم في الصيف إلّا أنّها شرعت لرفع حرج أقوي عن المجتمع او الشخص، مثلاً، لو لم يشرّع الجهاد لتسلط الأعداء على المسلمين ويوقعون فيهم القتل والنهب وينقلب الشعب الى شعب ذليل مهين، فاختيار الجهاد اختيار الأسهل وبمقارنة المصالح التي تتحقق من خلال الجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه، نرى ترجيح كفة المصالح وأهميتها بحيث تكون المشاق أمامها شيئا لا يذكر، فقانون «لا حرج» في الفقه والحقوق مستنبط من هذه الآية ونصوص توافقها في المضمون، وهو مبدأ أساسي في استنباط كثير من الأحكام.

والله تعالى بعد بيان نفي الحرج أشار الى مصلحة التي وراء الطهارات الثلاثة قال: ﴿وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ والتطهير مصلحة في الجسم والروح والنعمة هي اكمال الدين والتسليم لأمر الله وهو نعمة ليس فوقها نعمة تبعث النفس الى شكر خالقه فيحلو له الدنيا ويسعد في الآخرة والآية التي تليها تؤكد على لزوم الانتباه لهذه النعمة العظيمة فقال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾

جاءت الآية الأخيرة لتكمل السياق الموضوعي لما سبق من آيات، فاستقطبت انتباه المسلمين إلى أهمية و عظمة النعم الإلهية التي أعظمها و أهمها نعمة الإيمان و الهداية و الإسلام، تقول الآية: ﴿وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ... و مع أن كلمة «نعمة» جاءت بصيغة المفرد في هذه الآية، إلّا أنّها وردت اسم جنس لتفيد العموم، حيث عنى بالنعمة جميع النعم، كما يحتمل أيضا أن يكون المراد نعمة الإسلام بصورة خاصّة، و التي أشارت إليها الآية السابقة بصورة إجمالية حيث قالت: ﴿وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ حيث تحولوا بفضل الإسلام إلى مجتمع يسوده الاتحاد و التماسك و العلم.

ذكر المفسرون احتمالان حول المراد من لفظة «العهد» الواردة في الآية وموضوعه.

أحدهما: أن يكون هو ذلك العهد الذي عقده المسلمون في بداية ظهور الإسلام في واقعة «الحديبية» أو واقعة «حجة الوداع» أو «العقبة» مع اللّه، أو بصورة عامّة هو العقد الذي عقده جميع المسلمين بصورة ضمنية مع اللّه بمجرّد قبولهم الإسلام.

والاحتمال الثّاني: هو أن يكون العهد المقصود في الآية الكريمة الأخيرة هو ذلك العهد المعقود بين كل فرد إنساني- بحكم فطرته وخلقه- وبين اللّه، والذي قد يسمى ب (عهد اَلَسْتُ) إشارة الى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني‌ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‌ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلينَ﴾ [6]

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo