< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

37/12/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 21 ) القيافة - المكاسب المحرمة.

ذكرنا في المحاضرة السابقة مضمون روايتين ولكن لم نقرأهما أحداهما عن علي بن جعفر أنه كان يقول إنَّ هذه الشيبة إذا لم يرَ الله عز وجل لها الكفاءة للإمامة ورأى هذا الفتى فأنا لابد وأن اخضع ، وقلت كان يقدم نَعْلَي الامام ، ولكن لا يوجد في الرواية هذا ، بل نصّ الرواية عن الكافي بسنده عن محمد بن الحسن بن عمّار قال:- ( كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه - يعني أبا الحسن عليه السلام - إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام المسجد - مسجد الرسول صلى الله عليه وآله - فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه ، فقال له أبو جعفر عليه السلام:- يا عم اجلس رحمك الله ، فقال:- يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون:- أنت عم أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل ؟ فقال:- اسكتوا إذا كان الله عزّ وجلّ - وقبض على لحيته - لم يؤهِّل هذه الشيبة وأهَّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أُنكِرُ فضله ؟! نعوذ بالله ممّا تقولون، بل أنا له عبد )[1] .

وأما الرواية الثانية التي مضمونها أنه وقع خلاف بين الامام الباقر وبين بعض أقربائه من بني الحسن حيث أراد عبد الملك بن أعين أن يتدخّل ولكن الامام عليه السلام قال له نحن نحلّ المشكلة بيننا إنّ مثل بني عمنا مثل رجل في بني اسرائيل كانت عنده بنتان فزوّج إحداهما للزراع والأخرى لفخّار ، فزار الأولى وسألها عن حالها فقالت الحمد بخير ولكن أذا نزل المطر فنحن أحسن بني اسرائيل ، ثم ذهب للأخرى فسألها فقالت له الحمد لله بخير ولكن لو لم تمطر فنحن نكون أحسن بني اسرائيل فإجابهما أبوهما الله لكم - يعني هو الذي يرتّب مثل هذه الأمور - ، والامام الباقر عليه السلام يقول له نحن كذلك ، وهذه الروية موجود ة في الكافي بسندٍ ينتهي إلى زرارة عن عبد الملك قال:- ( وقع بين أبي جعفر وبين ولد الحسن عليهما‌ السلام كلام ، فبلغني ذلك ، فدخلت على أبي جعفر عليه ‌السلام ، فذهبت أتكلم ، فقال لي:- ( مَه ، لا تدخل فيما بيننا ، فإنما مثلنا ومثل بني عمّنا كمثل رجلٍ كان في بني إسرائيل كانت له ابنتان ، فزوج إحداهما من رجلٍ زراع ، وزوج الأخرى من رجل فخار ، ثم زارهما ، فبدأ بامرأة الزراع ، فقال لها : كيف حالكم ؟ فقالت:- قد زرع زوجي زرعا كثيراً ، فإن أرسل الله السماء فنحن أحسن بني إسرائيل حالاً ، ثم مضى إلى امرأة الفخار ، فقال لها:- كيف حالكم ؟ فقالت:- قد عمل زوجي فخارا كثيراً ، فإن أمسك الله السماء فنحن أحسن بني إسرائيل حالاً ، فانصرف وهو يقول:- اللهم أنت لهما ، وكذلك نحن )[2] .

عود إلى صلب الموضوع:- ذكرنا فيما سبق أنّ الشيخ الأعظم(قده) استدل على عدم شرعية القيافة بأربعة وجوه وناقشناها ، والآن نحن نريد تحقيق الحال في هذه القضية.

والمناسب هو عدم الشرعية وذلك لما يلي:-

الوجه الأوّل:- قاعدة الفراش ، حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:- ( الولد للفراش وللعاهر الحجر )[3] ، وهذه قاعدة مسلّمة سنداً وواضحة ، وألفاظها تدلّ على أنها صادرة من معدن العصمة والطهارة .

وهذه القاعدة تدلّ على أنه في حالة الشك ينتسب الولد دائماً للفراش ، فإذا حصل زنا وشككنا أنّ الولد الذي حصل هو لمن ؟ فنقول هو لصاحب الفراش وهو الزوج ، اللهم إلا أن يحصل يقين بخلاف ذلك ولكن هذه قضية ثانية ، أما هذه القاعدة فهي واردة في مورد الشك ، فإنّ هذا هو مدلولها المطابقي ، وهي بالالتزام تدل على عدم شرعية ما سوى ذلك إلا أن يقوم دليل فيصير مخصّصاً لقاعدة الفراش ، كالقيافة فتصير بمقتضى الدلالة الالتزامية لقاعدة الفراش ليست شرعية وليست حجّة.

فإذن لا يمكن أن أقول إنّ هذا الولد يشبه ذاك - الذي هو غير صاحب الفراش – لأنّ رجلاه يطابقن رجلا ذاك الرجل أو غير ذلك فإنّ هذا خلاف ما تفيده قاعدة الفراش ، فقاعدة الفراش بمدلولها المطابقي تلحق الولد المشكوك بصاحب الفراش ، وبالالتزام تدل على نفي شرعية ما سوى ذلك ، ومن جملة ما سوى ذلك القيافة.

الوجه الثاني:- اللعان ، فنحن قرأنا في الفقه أنه إذا قال الزوج إنّ هذا الولد ليس لي ففي مثل هذه الحالة يبقى الولد ملحقاً به إلا أن يلاعن زوجته ، فإذا لاعنها يدرأ بذلك الحدّ عن نفسه وينتفي الولد عنه ، هذا ما نستفيده من دليل تشريع اللعان بالدلالة المطابقة ، وبالدلالة الالتزامية نستفيد أنّ ما سوى ذلك لا يمكن الاستناد إليه فلا يمكن من خلاله نفي الولد ، ومن جملة ما سوى ذلك هو القيافة ، فإذا كانت قواعد القافة تقول إنَّ هذا الولد ليس لك فسوف ترفض مقالتهم ، وهذا مدلول التزامي لدليل تشريع اللعان.

الوجه الثالث:- الآيات الناهية عن اتباع الظن ، فإنها تدلّ على أنّ الظنّ ليس بحجّة ، فالأدلة الناهية عن اتباع الظن هي إرشاد إلى عدم حجّية الظن ، ومن الواضح أنّ قواعد القافة وقولهم أقصى ما يورث لنا الظن دون اليقين ، ومعه فلا يكون ذلك حجّة بمقتضى هذه الآيات الناهية عن اتباع الظن.

هذه أدلة ثلاثة يمكن التمسّك بها لنفي شرعية القيافة ، ويمكن بالتأمل قد يحصل على منوال هذا شيء أكثر مما أشرت إليه.

إن قلت:- هذا صحيح ، ولكن يوجد طريق آخر أسهل بلا حاجة إلى هذا التطويل ، وذلك بأن يقال:- إثبات جواز النظر أو الإرث أو سائر الآثار على هذا الولد الذي ألحق بهذا الشخص - لأنّ القيافة استدعت أنّ هذا الولد يلحق بهذا الشخص الذي هو غير صاحب الفراش - فإذن اثبات الإرث أو جواز النظر إذا كانت بنتاً فيجوز له النظر إليها وما شاكل ذلك فهذه الأمور حينئذٍ سوف تثبت ، فالإرث لا نحكم به إلا أن يكون هناك مثبتٌ ، وحيث لا مثبت فيكفينا هذا لنفي ترتيب الآثار بلا حاجة إلى هذا التطويل.

قلت:- تارةً يفترض أنّنا نبني على القاعدة الميرزائية[4] [5] - قاعدة الشيخ النائيني(قده) - ، وهذه القاعدة لها صياغتان صياغة معقدة وصياغة مبسطة :-

أما الصياغة البسيطة:- فهي ( أنه متى ما ثبت حكم ترخيصي لعنوانٍ وجودي فالعرف يفهم أنّ هذه الرخصة لا تثبت إلا إذا أحرز ذلك العنوان الوجودي ) ، فمثلاً إذا قال لك إنه يجوز لك النظر إلى زوجتك أو أختك ، فهذا حكمٌ ترخيصي ثبت إلى عنوانٍ وجودي ، وكنتُ أسير في الشارع فرأيت امرأةً من بعيد ولا أدري أنها زوجتي أو لا فإنّ كانت زوجتي فيجوز لي النظر إليها وإذا لم تكن زوجتي فلا يجوز النظر ، ومثالٌ آخر هو أنّ الجماع يجوز مع الزوجة ، فهو رخصةٌ ، وأنا دخلت الغرفة فرأيت امرأةً نائمة ولا أعلم أنها زوجتي أو لا ، ففي مثل هذه الحالة هو يجوز لي ذلك أو لا ؟ قال الشيخ النائيني(قده):- إنَّ العرف يقول إنه مادام لم تحرز العنوان الوجودي فالرخصة لا تثبت فلا يجوز النظر ولا الجماع.

أو قال لك ( كلّ الجبن أوّل الشهر ) ، فأنت مرخّصٌ فلابدّ وأن تحرز أنّه جبنٌ حتى يجوز لك أكلّه ، هذه قاعدة نائينية بالصياغة المبسطة ، وأنا أوّل ما سمعتها بهذه الصياغة من السيد الشهيد(قده) في بحثه الخارج ولكنه بينها بالعبارة الطويلة الموجودة في بعض كتب الشيخ النائيني(قده) ، أما هذه الصياغة التي ذكرتها فهي موجودة في حاشيته على العروة الوثقى في بداية كتاب النكاح.

أما الصياغة المطوّلة للقاعدة فهي:- ( إذا كان هناك حكم[6] لزومي أو ملازم له[7] واستثني منه حكم ترخيصي معلّق على عنوان وجودي فلا يثبت ذلك الحكم الترخيصي إلا إذا أحرز ذلك العنوان الوجودي ) ، من قبيل الروايات الدالة على أنَّ كلّ ما لاقته النجاسة يتنجس ، فهذا دلّ على حكمٍ ملازمٍ وهو النجاسة ، واستثني منه ( إذا بلغ الماء قدر كرٍّ فلا ينجّسه شيء ) ، فهذا حكم ترخيصي - يعني أنت مرخّصٌ أن لا تطبّق عليه النجاسة وليس ملزماً - ثبت هذا الحكم الرتخيصي إلى عنوانٍ وجودي وهو الكرّ ، فلا يثبت هذا الترخيص إلا إذا أحرز ذلك العنوان الوجودي.

وهل هذه القاعدة صحيحة أو لا ؟

والجواب:- قد تعرضنا لها في بداية بحثنا ، ولكن لو بنينا عليها فتعال إلى مقامنا ، فإنّ الإرث رُتّب على عنوان الولديّة ، يعني إذا كان هذا ابني ، وجواز النظر رُتّب على كونها ابنتي ، وحيث لم أحرز عنوان الولديّة أو البنتيّة فالرخصة لا تترتّب - يعني جوزا النظر أو الإرث - ، فإذا بنينا على القاعدة النائينية فهذا الاقتراح يكون وجيهاً ، إما إذا لم نبنٍ عليها فهل يمكن التمسّك بالاستصحاب لنفي الولديّة فنستصحب عدم الولديّة وعدم البنتيّة لنفي الآثار فهل هذا الاستصحاب قابل للجريان أو لا ؟


[5] فوائد الأصول، النائيني، ج3، ص384.
[6] العنوان اللزومي مثل الحرمة.
[7] مثل النجاسة فإنها ملازمة لحرمة الشرب وما شاكل ذلك.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo