< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

44/04/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه السابع من تنبيهات الاستصحاب ( وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة )- مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

الميزان في تحديد الموضوع ووحدته: -

عرفنا فيما سبق أنَّ شرط جريان الاستصحاب وحدة الموضوع، فإن الروايات قالت: ( لا تنقض اليقين بالشك ) فقط والنقض لا يصدق إلا مع وحدة الموضوع ولكن ما هو الملاك في تحديد وحدة الموضوع فهل نرجع في تحديده إلى العقل أو إلى لسان الدليل أو إلى العرف؟

وهنا نقول: - أما العقل فالأنسب حذفه من الحساب، فإنَّه لا يتدخل في مثل هذه الأمور وليس من شأنه ذلك وإنما هذه قضية أشبه بالاستظهارية فلا مجال للعقل في مثل ذلك، وعليه سوف ينحصر الأمر بين أن يكون المدار على لسان الدليل أو على العرف.

وتظهر الثمرة فيما إذا اقتضى لسان الدليل شيئاً واقتضى العرف شيئاً آخر، أما إذا اتفقا فلا ثمرة في هذا النزاع، فمحل الكلام هو فيما إذا فرض حصول اختلافٍ بين لسان الدليل وبين ما يحكم به العرف، فمثلاً لو كان الدليل يقول ( الماء نجسٌ إن تغير ) ففي مثل هذه الحالة إذا كان المدار على لسان الدليل يكون الموضوع هو ذات الماء، وأما إذا فرض أنَّ الدليل قال ( الماء المتغيّر نجس ) فلو أخذنا بلسان الدليل وجعلناه هو المدار فعلى هذا التعبير الثاني يصير الموضوع هو الماء المتغيّر.

ومن هنا نستنتج أنه لو كان المدار على لسان الدليل فلابد وأن نتماشى مع ألفاظ وتعابير الدليل فإذا عبّر وقال ( الماء نجس إن تغير ) يكون الموضوع هو ذات الماء، وإذا قال ( الماء المتغيّر نجس ) يكون الموضوع هو الماء المتغير لا ذات الماء.

وأما إذا جعلنا المدار على النظرة العرفية فلسان الدليل لا يؤثر في ذلك، ففي المثالين السابقين وجدنا أنَّ الدليل مرّة يعبّر بتعبيرٍ معينٍ وأخرى يعبّر بتعبيرٍ آخر ولكن العرف يرى أنَّ الموضوع للنجاسة هو ذات الماء وأما صفة التغير فهي ليست محلاً للنجاسة وإنما هي سببٌ لنجاسة الماء، فالنجاسة تكون ثابتة للماء، فمهما اختلف تعبير الدليل يبقى الموضوع واحداً وهو ذات الماء وهو المحكوم بالنجاسة، فالماء موضوعٌ للنجاسة والنجاسة حكمٌ والتغيّر علّةٌ لثبوت النجاسة للماء.

والخلاصة: - هل الميزان في تحديد موضوع الحكم على لسان الدليل أو على النظرة العرفية فإنَّ النظرة العرفية قد تختلف أحياناً عن لسان الدليل وقد يتحدان أحياناً وكلامنا هو في مورد الاختلاف فهل المدار على لسان الدليل أو على النظرة العرفية؟

وهذا سؤال مهم ينبغي الجواب عنه وجريان الاستصحاب يتأثر بالجواب عنه، فإن جعلنا المدار على النظرة العرفية فقد لا يجري الاستصحاب في بعض الموارد لأنَّ العرف يرى أنَّ الموضوع ليس ثابتاً، بينما إذا جعلنا المدار على لسان الدليل فقد يكون الموضوع ثابتاً، وقد ينعكس الأمر، فالمدار على ماذا؟

ولو قيل: - أوليس تحديد موضوعات الأحكام يرجع فيها إلى العرف والنظرة العرفية وهذا شيء مسلّم؟!!، يعني أنَّنا نرجع في تحديد موضوع الحكم إلى النظرة العرفية وماذا يفهم العرف فلماذا الترديد بين كون المرجع هو النظرة العرفية أو هو لسان الدليل والحال أنَّ الذي يحدد موضوع الحكم هو النظرة العرفية بل لا معنى لهذا الترديد.

وفي مقام الجواب نقول:- إنَّ لسان الدليل يمكن أن ننظر إليه بنظرتين ونلاحظه بملاحظتين، فمرة نلحظ المدلول الاستعمالي، وأخرى ننظر إلى ما يستفيده العرف وهو قد يخالف ما يستفاد من المدلول الاستعمالي، فقد يكون المدلول الاستعمالي يقتضي شيئاً لكن النظرة العرفية تقتضي شيئاً آخر، فالمدلول الاستعمالي هو أنَّ النجاسة ثابتة للماء بقيد التغيّر وليس إلى ذات الماء بل النجاسة ثابتة للماء زائداً التغير، فليس ذات الماء هو الحامل للنجاسة والمتصف بها وإنما الماء بقيد التغير، بينما إذا نظرنا إلى الفهم العرفي وما وراء الاستعمال فالعرف يرى أنَّ النجاسة تنصبُّ على ذات الماء أما التغير فليس محلاً للنجاسة وإنما هو سببٌ لاتصاف الماء بالنجاسة وللحكم على الماء بالنجاسة.

فإذاً يوجد اختلافٌ كبير بين نتيجة النظرتين، فعلى المدلول الاستعمالي إذا كان المدار في تحديد الموضوع على الاستعمال إذا زال التغيّر عن الماء فسوف ينتفي الموضوع فلا يجري الاستصحاب حينئذٍ، لأنَّ التغيّر جزء الموضوع وقد تغيّر الموضوع والمحكوم بالنجاسة أولاً كان هو الماء المتغيّر والآن لا يوجد ماءٌ متغيرٌ وإنما يوجد ذات الماء فلا يمكن استصحاب النجاسة، بينما لو كان المدار على النظرة العرفية ففي مثل هذه الحالة حيث إنَّ النظرة العرفية ترى أنَّ التغيّر سببٌ لطروّ النجاسة على الماء وليس التغيّر محلاً للنجاسة وإنما محل النجاسة هو الماء أما التغير فهو حيثية تعليلية فهو علّة لطروّ النجاسة على الماء فالموضوع إذاً بَعدُ باقٍ لأنَّ الموضوع هو ذات الماء فنقول هذا الماء حينما كان متغيراً سابقاً كان نجساً والآن الموضوع موجودٌ وهو ذات الماء - حسب النظرة العرفية - فيجري حينئذٍ الاستصحاب.

ولا اشكال في أنَّ المناسب كون المدار على النظرة العرفية وليس على الاستعمال، فإنَّ تحديد مراد الشرع المقدس يكون من خلال فهم العرف والنظرة العرفية، لأنَّ الشرع يخاطب العرف فلابد وأن يستفيدوا من النص بحسب ذوقهم العرفي ونظرتهم العرفية وإلا لو أردنا أن نحكّم بحسب الاستعمال بقطع النظر عن النظرة العرفية لخرجنا بفقهٍ جديد، فالصحيح إذاً في تحديد الموضوع في باب الاستصحاب أن يكون المدار على النظرة العرفية والمشي على طبقها، والدليل على كون المدار عليها وليس على ألفاظ الدليل واضحٌ فإنَّ الشرع المقدّس حينما يتكلّم مع الناس فهو يتكلم معهم بما هو عرفي، فهو إذاً عرفيٌّ ويتكلم مع أناسٍ عرفيين فلابد وأن يكون المجال المشترك بينهم هو النظرة العرفية ونتماشى في تحديد الموضوع عليها ولا نعير أهميةً إلى كيفية تعبير النص أو كيفية استعمال النص، فسواءٌ قال النص ( الماء نجس إن تغير ) أو قال ( الماء المتغير نجس ) أو قال شيئاً ثالثاً أو رابعاً - لو تصورنا ذلك - تبقى النتيجة واحدة، وهي أنَّ ذات الماء هو الموضوع للنجاسة والتغيّر هو علّة لطروّ النجاسة، ومادام ذات الماء موجودة فالموضوع موجودٌ فيجري حينئذٍ الاستصحاب.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo