< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

44/06/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- التنبيه التاسع ( حكم تعارض الاستصحابين وتعارض الاستصحاب مع غيره )- تنبيهات الاستصحاب- مبحث الاستصحاب.

تعارض الاستصحاب مع أصل البراءة:-

والمقصود من ذلك ما لو فرض أنَّ الحالة السابقة كانت هي الوجوب مثلاً كوجوب صلاة الجمعة في زمن الحضور ثم شككنا في بقاء وجوبها في زمن الغيبة فهنا هل نتمكن من اجراء أصالة البراءة أو أنها معارضة بالاستصحاب فلا تجري؟

والجواب:- إنَّ الاستصحاب هو المقدم.

فإنَّ المستند لأصل البراءة إن كان هو مثل حديث (رفع عن أمتي ما لا يعلمون) فحينئذٍ نقول: إنَّ استصحاب الوجوب - كوجوب صلاة الجمعة - الثابت في زمن الحضور مقدّمٌ على أصل البراءة في زمن الغيبة، ففي زمن الغيبة لو شككنا في ثبوت الوجوب لصلاة الجمعة أو عدم ثبوته - بقطع النظر عن الأدلة الاجتهادية وإنما وصلنا إلى الأصول العملية - فهل يمكننا التمسك بأصل البراءة لنفي وجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة أو أنه معارضٌ بالاستصحاب فلا يجري؟ الجواب:- إنَّ الاستصحاب هو المقدّم فإنَّ موضوع أصل البراءة هو عدم العلم بوجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة والاستصحاب إذا جرى فسوف يكون مقدّماً على البراءة، والوجه في ذلك:- هو أنَّ المأخوذ في أصل البراءة وإن كان هو عدم العلم والاستصحاب لا يورث العلم ولكن المقصود من العلم المذكور في دليل البراءة - الذي هو ( رفع عن أمتي ما لايعلمون ) - هو مطلق الحجَّة، فإذا سلّمنا بهذا فحيث إنَّ الاستصحاب حجَّة فيكون هو المقدَّم على أصل البراءة.

وقد تقول:- إنَّ تفسير العلم أو عدم الحجَّة بمطلق الحجَّة أو بمطلق عدم الحجَّة يحتاج إلى دليل والظاهر أنَّ المقصود من العلم هو الحالة النفسانية المعبر عنها ( مائة بالمائة ) فكيف تقدّم الاستصحاب عليها؟

قلنا:- يلزم أن نفسّر عدم العلم بعدم الحجَّة وإلا سوف يلزم عدم جريان البراءة في جميع الموارد أو في الكثير منها، فإنَّه إذا شككنا في حرمة شيء فنحن نفحص عن الدليل ولا نعثر عليه ولكن عدم العثور عليه لا يعني حصول العلم بانتفاء التكليف بل هناك احتمالٌ لوجوده ولكنه لم يصل إلينا، وهذا الاحتمال موجود دائماً ولا يحصل القطع بعدم وجود الدليل نتيجة هذا الفحص، على أنه لا خصوصية للعلم بل المهم هو الحجَّة بشكلٍ عام والتكليف يدور مدار وجود الحجَّة وعدمها لا مدار العلم به وعدمه، بل مادام لا توجد حجَّة على التكليف فهذا يكفي لنفيه لا أنه يلزم حصول العلم بعدمه.

والخلاصة:- أننا نريد أن نقول إنَّ المقصود من حديث البراءة حينما قال:- ( رفع عن أمتي لا ما يعلمون ) أي ما لا حجَّة عليه، فمادام لا يوجد حجَّة عليه فحينئذٍ يكون التكليف مرفوعاً، وهذا هو المناسب عقلائياً، فيكون المدار على وجود الحجَّة على التكليف وعدمها لا العلم بمعنى اليقين، والبراءة تدور مدار وجود الحجَّة وعدمها، وحيث إنَّ الاستصحاب حجَّة فحينئذٍ لا تجري البراءة بل يكون الاستصحاب هو المقدَّم.

فإذاً عند التعارض بين الاستصحاب والبراءة يكون الاستصحاب هو المقدّم، ففي مثال وجوب صلاة الجمعة مقتضى الاستصحاب هو بقاء الوجوب ومقتضى البراءة هو عدم الوجوب ولكن المقدَّم هو الاستصحاب باعتبار أنَّ المقصود من ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) أي ما لا حجّة عليه، وحيث إنَّ الاستصحاب حجَّة على بقاء الوجوب فأصل البراءة لا يكون جارياً.

وإن كان المستند هو حديث ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) فتقدّم الاستصحاب أيضاً يكون وجيهاً، فإنَّ المقصود من الورود المذكور في الحديث ليس هو الصدور وإنما الوصول، أي كل شي مطلقٌ إلى أن يصلك فيه نهي لا أنه كل شيء مطلقٌ مادام لم يصدر فيه نهي واقعاً، إذ لو كان المقصود من الورود هو الصدور للزم تعذّر التمسك بهذا الحديث، لأننا نحتمل في كل موردٍ هناك صدورٌ ولكنه خفي علينا ولم يصل لسببٍ وآخر، وعليه فإذا أردنا أن نتمسك بهذا الحديث لاثبات البراءة علينا أن نفسر الورود بالوصول، فإذا فسرناه بالوصول فقد وصلني النهي من خلال استصحاب الحالة السابقة، فيكون الاستصحاب هو المقدّم.

وإن كان المستند هو قوله تعالى ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ﴾ فالأمر أوضح، فإنه باستصحاب التكليف السابق يصدق أنه ( آتاها )، فلا يمكن التمسك حينئذٍ بالبراءة وبالآية الكريمة.

وإن كان المستند هو حديث ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) فأيضاً يكون الاستصحاب هو المقدم، لأنَّه يصير طريقاً للمعرفة - أي معرفة أنَّ هذا الشيء حرام - فأنا سوف أعرف حرمته أو وجوبه من خلال استصحاب الحالة السابقة.

والخلاصة:- إنَّ الاستصحاب مقدّم على أصل البراءة سواء كان مستندها حديث ( رفع عن امتي ما لا يعلمون) أو بقية المستندات الأخرى.

هذا بالنسبة إلى تعارض الاستصحاب مع أصل البراءة وقد اتضح أنَّ المقدم هو الاستصحاب، لأنه يرفع موضوع البراءة، لأنَّ البراءة إنما تجري مادمت لا تعلم بالحرام أو بالوجوب - بعد تفسير العلم بمطلق الحجَّة -، والاستصحاب يثبت لنا الوجوب أو الحرام فيكون مقدماً ونافياً لموضوع البراءة أي يكون حاكماً.

الاستصحاب وقاعدة الفراغ و التجاوز واليد:-

إذا اجتمع الاستصحاب مع أحد هذه القواعد الثلاثة فالمناسب تقدّم هذه القواعد عليه، والوجه في ذلك واضح:- فإنَّ الاستصحاب لو كان هو المقدَّم للزم أن لا يبقى مورد لهذه القواعد وبالتالي يلزم لغوية تشريعها.

أما لزوم لغويتها فذلك باعتبار أنَّ قاعدة الفراغ مثلاً إذا أتم المكلف الصلاة ثم شك أنه أتى بالركوع في الركعة الثانية مثلاً أو لا - والركوع ركنٌ فإذا لم يأت به المكلف ولو سهواً ونسياناً بطلت صلاته - فمقتضى الاستصحاب هو عدم الاتيان به، وحينئذٍ لو كان الاستصحاب هو المقدّم لا يعود هناك مجالٌ لجريان قاعدة الفراغ ويكون تشريعها لغواً لأنَّ الاستصحاب دائماً يثبت عدم الاتيان بالشيء المشكوك.

وهكذا الكلام في قاعدة التجاوز، فإذا تجاوز المكلف عن محل الشيء المشكوك فإذا فرض أنَّ الاستصحاب كان هو المقدَّم فسوف يلزم لغوية تشريع قاعدة التجاوز، لأنَّ الاستصحاب دائماً الاستصحاب يقتضي عدم الاتيان بالمشكوك.

وهكذا الحال بالنسبة إلى قاعدة اليد، فإذا فرض أني أردت أن اشتري داراً من شخصٍ فقاعدة اليد تثبت إنه مالك لها فاعتمد على هذه اليد، بينما لو كان الاستصحاب هو المقدّم فهذه الدار لم تكن بيد هذا الشخص سابقاً وإنما كان تحت يد شخصٍ آخر - أي لم تكن ملكاً للبائع - فاستصحاب عدم ملكية صاحب اليد لو تقدَّم على قاعدة اليد لما عاد هناك مورد لهذه القاعدة وبالتالي يلزم أن يكون تشريعها لغواً.

الاستصحاب وأصالة التخيير والاحتياط:-

المناسب في هذا المورد تقدّم الاستصحاب على أصالة التخيير، والوجه في ذلك هو أنَّ التخيير عادةً يكون في مورد الدوران بين المحذورين فإنَّ العقل يحكم هنا بالتخيير، كما لو شككنا أنَّ صلاة الجمعة في زمن الغيبة واجبة أو محرّمة فالعقل هنا يحكم بالتخيير إذا لم يوجد مرجّحٌ في البين، فإذا فرض أنَّ الاستصحاب كان موجوداً فسوف يكون هو المرجّح وبالتالي لا يحكم العقل بالتخيير فإنه يحكم بالتخيير عند عدم المرجّح وفي هذا المورد الاستصحاب هو المرجّح.

وهكذا الحال لو فرض أننا كنا نعلم بالتكليف وكان الشك في المكلف به ولا يوجد مؤمّنٌ ففي مثل هذه الحالة يحكم العقل بالاحتياط، فإننا لا نعلم بأنَّ المكلف به هو صلاة الجمعة أو هو صلاة الظهر والمؤمّن ليس بموجود ويحتمل كون الواجب في زمن الغيبة هو صلاة الجمعة كما يحتمل أنَّ الواجب هو صلاة الظهر فالعقل يحكم عند عدم المرجَّح بالاحتياط، ولكن حيث إنَّ الاستصحاب - إذا كان موجوداً - هو مؤمِّنٌ فسوف يرفع العقل يده عن حكمه بوجوب الاحتياط وتكون الحالة السابقة هي الجارية، يعني يلزم الاتيان بصلاة الجمعة من دون حاجةٍ إلى ضم صلاة الظهر إليها.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo