< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/08/01

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: /شرائط العقد و أرکانه/

 

الشاهد الثاني - في تأييد كون الإجارة عبارة عن المبادلة على الانتفاع -: أن الإجارة في الأعيان على نسق الإجارة في الأعمال، فإن دعوى اختلاف الحقيقة الاعتبارية فيهما مما تأباها المرتكزات. ومن الواضح في الفقه الوضعي الكاشف عن الرؤية العقلائية عدم ثبوت ملك المستأجر للعمل في ذمة الأجير، وإنما له حق المطالبة القانونية، ولذلك لو لم يأت بالعمل إلى حين انقضاء الوقت لم يتحمل ضمان قيمة العمل للمستأجر، وإنما غايته انفساخ العقد، وهذا ما أفتى به المشهور من فقهائنا رضوان الله عليهم في هذه المسألة.

فتحصل: أن الصحيح كون الإجارة هي المبادلة الإنشائية بين الطرفين لا خصوص المعاوضة على نحو الملك، كما أن محورها السلطنة على الانتفاع الذي هو حق عقلائي قد يثبت بغير الإجارة مطلقاً أو في جهة خاصة كما في حق السرقفلية. ولعل هذا هو المنظور في التعريف الثاني للإجارة - وهو التسليط على العين للانتفاع بها.

 

(فصول باب الإجارة)

(الفصل الأول - شرائط العقد وأركانه)

في شرائط العقد:

الشرط الأول: أن يكون العقد متقوماً بالقصد والإنشاء للعلقة الوضعية، وإِبْرازُ ذلك بقولٍ أو فعلٍ.

وإنما قيد العقد بكونه إنشاء لإخراج بعض أسباب التملُك كالحيازة - مثلاً - فإن الحيازة مما يترتب عليها المِلك بمجرد العمل بقصد التملُك، أي أنّ من وضع يده على ما في الخارج مما ليس مِلكاً لأحدٍ بقصد التملُك كان ذلك سبباً للتملُك بالحيازة وإن لم يقصد الحائزُ إنشاء المِلكية في وعاء الاعتبار، فإنه لا يعتبر في سببية الحيازة للمِلكية إنشاءُ الملكية؛ بخلاف العقود كالإجارة والبيع فإن سببيتها للعلقة الوضعية - سواء كانت العلقة الوضعية مِلكية أو حقية - إنما تتم بالإنشاء لا بمجرد القصد ولا بمجرد الرضا الباطني؛ بل لا بُدّ للمتبايعين أو المُؤجِر والمُستأجِر من الإنشاء.

كما أنّه يعتبر في تحقق سببية العقد إِبْرازُ ذلك المُنشأ بقولٍ أو فعلٍ، ولا يكفي مجرد الإنشاء في عالم الاعتبار وإن لم يقم المُنشئ بإِبْراز ذلك بقولٍ أو فعلٍ، والشاهد على ذلك مضافاً إلى أن صدق هذه العناوين كعنوان البيع أو عنوان الإجارة عرفا منوط بإِبْراز المُنشأ لا مجرد إنشائه واعتباره - حتى على مبنى كون الإنشاء إبراز الاعتبار النفساني - أن ذلك مما دلت عليه بعض النصوص الشريفة نحو معتبرة غياث بن إبراهيم: (ما رواه محمّد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر - يعني أحمد بن محمّد بن خالد البرقي -، عن أبيه، عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): إذا صفق الرَّجل على البيع فقد وجب وإن لم يفترقا)[1] أي إذا أَبْرز إنشائه لصفقة البيع بتصفيقه أو ضربه على يد الرجل الآخر فقد وجب وإن لم يفترقا، ولعل هذا هو المقصود بما ورد في بعض الروايات الشريفة كما في الوسائل: (وعنه، عن ابن أبي عمير، عن يحيى بن الحجاج، عن خالد بن الحجاج - في الكافي خالد بن نجيح - قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب، وأربحك كذا وكذا، قال: أليس إن شاء ترك، وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به إنّما يحلّ الكلام ويحرم الكلام)[2] فالمنظور في قوله: (إنّما يحلّ الكلام ويحرم الكلام) على بعض التفسيرات هو أن كون الإنشاء سبباً لتحقق العلقة الوضعية كالمِلكية أو الزوجية أو الحقية منوط بوجود مُبرز ولا موضوعية لكون المُبرز هو الكلام مقابل الفعل أو الإشارة.

الشرط الثاني: تقوم المعاملة بالإيجاب والقبول، فلا يصدق عنوان البيع أو عنوان الإجارة على مجرد الإيجاب؛ بل إنما يصدق على المُنشأ المعاملي المتقوم بقرار الطرفين، وهما: المُوجِبُ والقابل.

وقد استدل على اعتبار الإيجاب والقبول بوجهين:

الوجه الأول: أن ما قصد المُوجِب بقوله: (بعتُك الكتابَ بكذا) أو قوله: (آجرتُك الدارَ لمدة سنةٍ بكذا)، هو التمليك من طرفه؟ أو أن المقصود بقوله: (بعتُ) و(آجرتُ) هو التمليك المتقوم بمجموع الطرفين؟

فإن كان مقصود المُوجِب بقوله: (بعتُك الكتابَ بكذا) أو (آجرتُك الدارَ بكذا) إنشاءُ المِلكية من طرفه، فهذا ليس بيعاً ولا إجارةً؛ إذ المفروض أنّ البيع والإجارة عنوانٌ للعلقة القائمة بالطرفين، مع أنّه يُعبر عنه عرفاً بقوله: (بعتُ) و(آجرتُ).

وإن كان المقصود إنشاء المِلكية القائمة بالطرفين لا من طرفه فقط، فهذا يعني أنه مُوجِب وقابل، وهو من حيث كونه مُوجِباً أصيل، ومن حيث كونه قابلاً فضولي، فلا يكون للمشتري دورٌ إلا الإجازة؛ لأنّ المُوجِب أصيلٌ من حيث الإيجاب فضوليٌّ من حيث القبول، مع أن دور المشتري والمُستأجِر رُكني فيها لا مجردُ مُجيزٍ لما يقوم به المُوجِب.

وقد أُجيب في المكاسب حيث تعرض الشيخ الأعظم قدس سره الشريف لهذه الشبهة، ونذكر جوابين عنها:

الجواب الأول: ما نقله الشيخ الأعظم قدس سره الشريف في المكاسب [3] عن بعض معاصريه من أن البيع والإجارة اسمٌ للإيجاب إذا تعقبه القبول بنحو الشرط المتأخر، بمعنى أن تعقب القبول كاشف عن حصول البيع من حين الإيجاب، مما يرشد إلى أن ما هو المعنون بالبيع والإجارة هو الإيجاب، والقبولُ شرطٌ دخيل في عنونته بالبيع أو بالإجارة.

الجواب الثاني: ما نقله الشيخ الأعظم قدس سره الشريف أيضاً [4] مِن أنّ القبول دخيل في إمضاءٌ المعاملة وترتب الأثر العقلائي والشرعي عليها، وليس شرطاً في تحقق عنوان البيع.

ولكن الصحيح: أنّ القبول ركن العقد لا أنّه شرطٌ في صدق العنوان على الإيجاب ولا أنّه دخيلٌ في ترتب الأثر؛ بل هو دخيل في صدق عنوان البيع وصدق عنوان الإجارة.

ونكتة ذلك: أنّ عنوان البيع أو الإجارة له وإن أطلق عرفاً على نفس الإيجاب أحياناً، كأن يقول صاحب البضاعة: (بعت البضاعة على زيد فلم يقبل)، إلا أن ما عليه المرتكز العقلائي هو أن عناوين المعاملات والعقود عناوين طرفينية، بمعنى أن المُعنون بالإجارة والبيع هو المبادلة المتقومة بقرار الطرفين، وهي التي يتعلق بها الإنشاء والإخبار، فكما أن المنظور في قول الإنسان: (بعت البضاعة على الشركة الفلانية) هو الحكاية عن وقوع المعاملة بركنيها، فكذلك ما هو متعلق الإنشاء من قبل الطرفين هو ذلك، ولذلك فالإيجاب - الصادر من البائع - تسبُبٌ لإيجاد تلك العلقة القائمة بالطرفين، بلحاظ أن المُوجِب حيث يعلم أنّ المبادلة المتقومة بالطرفين تحتاج إلى تسبُبٍ وقصدٍ لإيجادها من كلا الطرفين، كان ما يصدر منه التصدي والتَسبُبٌ مِن قِبله لإيجاد تلك المبادلة المتقومة بالقبول، فبما أن دوره دور التسبيب وإن لم يكن هو المُوجِد للمبادلة؛ لأجل ذلك يكون ما قصده بقوله: (بعتُ) أو (آجرتُ)، هو تحقيق دوره في إبرام المعاملة، كما أن قبول الطرف الآخر على نسق الأول وهو كونه من باب التسبب وتحقيق دوره في إيجادها، لا أنّ القبول شرطٌ في ترتب الأثر؛ ولا شرط لصدق العنوان على الإيجاب؛ والحاصل أن هذه المبادلة الوضعية الطرفينية وإن كانت بنظر المرتكز العرفي مفهوما وحدانيا، إلا أنها ذات إضافتين إحداهما للموجب والأخرى للقابل لكونهما شريكين في تحققها، فهي من حيث انتسابها للموجب تسمى بيعا، ومن حيث انتسابها للقابل تسمى شراء، وهذا هو منشأ التقابل بينهما عرفاً، لا أنهما فعلان يكون أحدهما - وهو الإيجاب - قوام المعاملة والثاني - وهو القبول - شرط في صدق المعاملة على الأول أو شرط في تأثيرها.

وبناءً على ركنية كلا الإنشاءين في تحقيق ما هو مصداق المعاملة، فلا موجب لجعل الثاني فعلاً مطاوعياً للأول، أو أن الأصالة للأول والثاني تبع، بل هما من حيث دورهما في إيجاد المبادلة في عرض واحد.

ولعل هذا منظور ما أفاده سيد مصباح المنهاج قدس سره الشريف[5] حيث قال في آخرها: (كما تقدم هناك أنه لا يشترط في العقد الإيجاب والقبول المتفرع عليه) لا أنه لا يشترط القبول، وإنما لا يشترط تفرع القبول على الإيجاب (بل يكفي كل ما تضمن الالتزام منهما بالنحو المذكور بحيث يتحقق به العقد عرفاً، فيكفي توقيع الطرفين على الورقة المتضمنة لمضمون الإجارة) كما لو كتبت الورقة المتضمنة لمضمون الإجارة فوقع عليها الطرفان في عرضٍ واحدٍ فإن ذلك كاف في تحقق العقد (من دون أن يكون أحدهما موجباً والآخر قابلاً، كما يكفي الإيجاب من وكيل الطرفين) أي لو كان الوكيل وكيلاً عن البائع والمشتري والمُؤجِر والمُستأجِر فإنه يُنشئ المعاملة بكلا طرفيها عنهما (أو وليهما كذلك) كوليّ الزوجة ووليّ الزوج إذا كانا قاصرين فإنه يُنشئ العقد عنهما في عرضٍ واحدٍ (حيث يقوم التزامه عنهما مقام التزامهما.) مما يعني أنّ المعتبر ركنية القبول للعقد لا أنّ القبول فعلٌ مطاوعٌ للإيجاب، ولا أنّ القبول شرطٌ لصدق المعاملة على الإيجاب، ولا أنّ القبول شرطٌ في ترتب الأثر على الإيجاب؛ بل هو ركنٌ في عرض ركنية الإيجاب لتقوم العقد بهما وإن لم يصدق على ذلك عنوان الإيجاب والقبول، إذ لا ملزم بذلك من عرف أو شرع.

الوجه الثاني: بما أن العقد اسمٌ لإنشاء العلقة الوضعية كإنشاء علقة المِلكية أو علقة الحقية أو الزوجية ؛ فارتباط العلقة بالطرف الآخر مفتقر للمصحح، فإن ربطه بها تصرفٌ في سلطانه، بمعنى أن اعتباره مالكاً للمبيع في البيع أو مالكاً للمنفعة في الإجارة أو زوجاً للمرأة، تصرفٌ في سلطنته، فبما أنه تصرفٌ في سلطان الآخر فارتباط هذه العلقة به يتوقف على قبوله.

وهذا هو الفارق بين العقد والإيقاع، حيث أن العقد متقومٌ بالطرفين، بينما يكفي في الإيقاع الإرادة من طرفٍ واحدٍ.

وقد وقع البحث في الجُعالة والوقف على العنوان في أنهما من العقود أم من الإيقاعات؛ مع تضمن كليهما إنشاءَ علقةٍ وضعية في حق العامل في الجعالة، وحق العنوان - العلماء أو الذرية - في الوقف، وقد بنى جملة من الفقهاء على أنهما من العقود، ولازمه أنه لا بُدّ من عملٍ من الطرف الآخر يكون بمثابة القبول للعقد، كأنْ يكون تصدي العامل للعمل في باب الجُعالة هو قبوله، والقبض من قِبل الموقوف عليه أو وليه أو وكيله مصداقاً لقبوله.

 


[5] مصباح المنهاج/کتاب الإجارة، الطباطبائی الحکیم، السید محمد سعید، ص143.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo