< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/08/02

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: /شرائط العقد و أرکانه /

 

وفي المقام إيرادان:

الإيراد الأول: أن الاستدلال على تقوم البيع بالمبرز ولو كان إشارة بما رواه الشيخ الطوسي قدس سره في التهذيب حيث قال: (ما رواه محمّد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): إذا صفق الرَّجل على البيع فقد وجب وإن لم يفترقا)[1] محل تأمل سنداً ودلالةً:

أما سنداً: ففيه عدة استفهامات:

أولاً: إن الراوي الأول محمّد بن أحمد بن يحي الأشعري القمي صاحب كتاب نوادر الحكمة الثقة العين، لكن المروي عنه هو أبو جعفر وهو مردد بين أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي صاحب كتاب المحاسن، وقد يرجح الأول لكثرة رواية صاحب نوادر الحكمة عنه، وربما يشك في كون الكثرة بحد الانصراف العرفي عنه، فالثاني محتمل جداً لوحدة الطبقة، فهو الذي أخرجه أحمد بن محمّد بن عيسى من قم، ثم أعاده إليها واعتذر إليه، وقال عنه النجاشي والشيخ: (وكان ثقة في نفسه غير أنه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل).

ثانياً: في إثبات وثاقة أبيه في قوله (عن أبي جعفر، عن أبيه) وهنا محتملان:

أحدهما: أن المراد بالأب هو محمّد بن عيسى الأشعري القمي ولم يرد توثيق له، إلا أن يقال: إن في البين قرينتين على وثاقته:

1- قول النجاشي عنه: (أبو علي شيخ القميين ووجه الأشاعرة متقدم عند السلطان، ودخل على الرضا عليه السلام وسمع منه وروى عن أبي جعفر الثاني عليه السلام)، وهذه العبارات كناية عن جلالته ووضوح شأنه بحيث يستغنى عن توثيقه.

2- رواية الابن عنه وهو أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري القمي من الأجلة المعروفين بالتثبت الشديد فهو الذي أخرج سهل بن زياد من قم - بدعوى تساهله في نقل الغلو - كما حكى النجاشي عن الكشي عن نصر بن الصباح أنه قال: (ما كان أحمد بن محمّد بن عيسى يروي عن ابن محبوب من أجل أن أصحابنا يتهمون ابن محبوب في روايته عن أبي حمزة الثمالي، ثم تاب ورجع عن هذا القول)، وبالتالي فروايته عن أبيه في موارد تفرد فيها بالرواية، مع كون مضمون الرواية من الأحكام الإلزامية الابتلائية كاشف عقلائي عن توثيقه له، ولا يضر بذلك روايته عن بعض الضعفاء في ما لا تفرد فيه كروايته عن الحسن بن العباس بن الحريش - الذي نص النجاشي على أنه كان ضعيفاً جداً - وإن لم ينص الرجاليون على وثاقته.

ثانيهما: أن المراد بـ (أبيه) هو محمّد بن خالد البرقي، ولعله الأرجح لروايته مباشرة عن غياث بن إبراهيم[2] (فأما ما رواه جعفر بن قولويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليه السلام قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا قود)، بينما لم ترد رواية صريحة في رواية الأشعري عن غياث، وهو مرجح لكون المراد بأبي جعفر هو أحمد البرقي لا الأشعري، ويمكن الاكتفاء في توثيق محمد بن خالد البرقي بما ذكره الشيخ الطوسي: (أصحاب أبي الحسن، باب الميم، 363- 5391- محمد بن خالد البرقي ثقة)، ولا ينافيه قول النجاشي: (وكان محمد ضعيفاً في الحديث، وكان أديباً حسن المعرفة بالأخبار وعلوم العرب)؛ لظهور السياق في كون المراد بضعف الحديث غير الضعف في الرواية، وهو النظر لوقوعه في خطأ نقل الأخبار الموهونة نتيجة قلة خبرته ومعرفته بالحديث.

ثالثاً: في تحديد المقصود بـ (غياث)، حيث إن غياث بن إبراهيم مردد بين التميمي الأسدي البصري، وغياث الدارمي، وغياث الرزامي، ولا توثيق لغير الأول حيث قال النجاشي: (التميمي الأسدي ثقة روى عن أبي عبد الله عليه السلام وأبي الحسن عليه السلام، له كتاب مبوب في الحلال والحرام يرويه جماعة) إلا أن يقال بعدم ثبوت التعدد لعدم النص عليه واتحاد الراوي، واحتمال تعدد الألقاب، وعلى فرض التعدد فإن العنوان غياث بن إبراهيم ينصرف لصاحب الكتاب، لا لمجرد أن له كتاباً ولو كان مغموراً؛ وإنما لكون الكتاب معروفاً منقولا عنه.

والنتيجة: أنه لا إشكال في سندها وقد اتفق الجميع على التعبير عنها بالموثقة.

أما دلالةً: فهل أن قوله عليه السلام: (فقد وجب)، في قوله: (عن علي (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): إذا صفق الرَّجل على البيع فقد وجب وإن لم يفترقا) بمعنى فقد ثبت؟ أم قد لزم؟ يعني الوجوب كناية عن ثبوت البيع؟ أم كناية عن لزومه مقابل تزلزله؟

وهنا محتملات ثلاثة:

المحتمل الأول: إن الوجوب كناية عن اللزوم مقابل التزلزل؛ بقرينة قوله عليه السلام في الذيل: (وإن لم يفترقا)، باعتبار أن الافتراق من أسباب اللزوم كما في المروي عن النبي صلى الله عليه وآله بحسب نقل صاحب الحدائق: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا)[3] فكأن المراد أن الافتراق وإن كان من أسباب اللزوم لكن إذا سبقه التصفيق كان موجباً لسقوط خيار المجلس وإن لم يفترقا.

وقد أفاد سيدنا الخوئي قدس سره الشريف[4] أن المضمون على طبق القاعدة فهو كناية عن إلزام البيع بإسقاط الخيار، أي أنه مخصص لما دل على حصر الرافع لخيار المجلس في الافتراق.

المحتمل الثاني: أن الخبر محمول على التقية[5] و[6] ، بدعوى موافقته لمذهب أبي حنيفة، وهو بعيد جداً؛ إذ لامعنى للتقية في النقل عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه السابق عصراً على عصر المذاهب الأخرى، مع إمكان دفع محذور التقية بما هو أدنى من ذلك، بل لم يثبت قول للعامة بذلك ومذهب أبي حنيفة على عكس المضمون وهو عدم انقضاء خيار المجلس بالافتراق.

المحتمل الثالث: لو كان التعبير الوارد في الرواية: إذا صفق الرَّجل وجب البيع وإن لم يفترقا، لكانت ظاهرة في النظر للزوم، إلا أن التعبير الوارد في الرواية: (إذا صفق الرَّجل على البيع) وظاهره تحقيق البيع بنفس التصفيق، فإن المتعارف لدى العرب إنشاء البيع باللفظ أو بالمعاطاة، أو بالمصافقة بعد المساومة.

مما يعني أن المراد بالوجوب تحقق البيع وثبوته، كما استقربه[7] و [8] هو معنى الوجوب لغة نظير التعبير عن غسل الجمعة في الروايات بأنه واجب، لا الوجوب بمعنى اللزوم مقابل التزلزل، ويؤكد ذلك أن كون المصافقة من أسباب اللزوم مما لا ذكر له لا في الأخبار ولا الفتاوى، ولذا ذكر الشيخ الأعظم قدس سره الشريف: (أنه مناف للضرورة والأخبار المستفيضة).

الإيراد الثاني: قد أفاد سيدنا الخوئي قدس سره الشريف [9] [في مصباح الفقاهة] أن هناك إشكالاً عقلياً في إنشاء البيع بالإيجاب: (بعتُك الكتاب بكذا) أو الإجارة: (آجرتُك الدار بكذا)، وحاصله: أنه لا يعقل إنشاء مضمون العقد بالإيجاب - وهو ملكية المبيع أو المنفعة - من قبل العاقد سواء كان بائعاً أو مُؤجِراً قبل لحوق القبول وهو يعلم أن الإيجاب وحده لا يؤثر في إيجاد ما يقصده ما لم يتعقب القبول، إذ مع تصديقه بأن إيجابه لا يكون مؤثراً في إيجاد المِلكية، فكيف يتأتى منه القصد الجدي إلى إيجاد المِلكية وإنشائها؟

ثم أجاب عن ذلك: بأن هذه الشبهة مبنية على دعوى السببية، أي على أن الإنشاء المتحقق بالإيجاب سبب لإيجاد المِلكية، فإنه إذا قلنا بأن نسبة الإنشاء من المُوجِب والقابل للمِلكية نسبة السبب للمسبب، فقد يرد الإشكال بأنه كيف يصدر من المُوجِب التسبيب لوجود المِلكية مع علمه بعدم تحقق المسبب به؟

إلا أن الصحيح أن نسبة الإنشاء الصادر من المُوجِب والقابل للمِلكية ليست نسبة السبب للمسبب؛ وإنما نسبة الموضوع للحكم، بمعنى أنّه إذا صدر الإيجاب والقبول عن قصد حكم المشرع - سواء كان عقلائياً أو شرعياً - بالمِلكية، فنسبة الإيجاب والقبول للمِلكية نسبة الموضوع للحكم، لا نسبة السبب للمسبب كي يقال بأنه لا يعقل أن يقصد المُوجِب التسبيب للمِلكية مع علمه بعدم ترتبها عليه، فإن إيجابه ليس سبباً بل هو موضوع لحكم المشرع بالمِلكية.

ولكن الجواب الذي أفاده قدس سره الشريف محل تأمل؛ فإن ما هو موضوع للإمضاء - سواء كان إمضاء عقلائياً أو شرعياً - هو أمر إنشائي، وحيث إن الإيجاب إنشاء فلا متعلق له بالوجدان إلا المِلكية - سواء قلنا إن الإنشاء إيجاد المعنى بأداة، كما هو المسلك المشهور، أو قلنا إن الإنشاء هو الاعتبار المبرز كما هو مبنى سيدنا الخوئي قدس سره الشريف أن الإنشاء الاعتبار المبرز -، فإن النتيجة واحدة وهي تعلق الإيجاد والاعتبار بالمِلكية.

وبما أن متعلق الإيجاب هو المِلكية، أي أن مقصود المُوجِب إيجاد المِلكية أو اعتبارها، وعندئذٍ يعود السؤال وهو كيف يتصدى المُوجِب لإيجاد المِلكية أو اعتبارها مع علمه بعدم ترتبها على إنشائه إلا مع وجود القبول لاحقاً بذلك؟

والجواب المفيد: كما يظهر - مما سبق - أن علم المُوجِب بأن المِلكية لا تترتب على مجرد إنشائه إنما يتنافى مع القصد الجدي للتمليك اللابشرط من جهة القبول، فإن ذلك لا يجتمع مع التفاته إلى أن المِلكية لا تتحقق بذلك، وأما إذا كان مقصود المُوجِب التسبب لتلك المبادلة المتقومة بقرار الطرفين وهما المُوجِب والقابل فلا يرد المحذور، حيث إن التفات البائع والمُؤجِر إلى أن مؤدى البيع والإجارة مبادلة لها تقرر في عالم الاعتبار العقلائي وهو كونها متقومة بقرار من الطرفين، يفضي إلى أنه لا بُدّ لكل طرف من أن يتسبب لإيجاد تلك المبادلة من طرفه، فما يقوم به المُوجِب ليس إلا التسبيب من قبله لتحقق تلك المبادلة التي هي منوطة في واقعها بالقبول، كما يتسبب المشتري والمُستأجِر أيضاً لإيجاد تلك المبادلة من طرفه، فالتفات كل من الطرفين إلى أن المبادلة متقومة بهما يقتضي أن دور كل منهما التسبيب إليها من طرفه، فلا قصد من المُوجِب في التسبيب لمطلق المِلكية؛ وإنما المقصود التسبيب للمبادلة الإنشائية المتقومة بالطرفين من جهته باعتبار أنه أحد طرفيها لا أكثر من ذلك.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo