< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/01/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المسائل 30-34 /كتاب الضمان

 

"يجوز الدور في الضمان بأن يضمن عن الضامن ضامن آخر و يضمن عنه المضمون عنه الأصيل و ما عن المبسوط من عدم صحته لاستلزامه صيرورة الفرع أصلا و بالعكس ولعدم الفائدة لرجوع الدين كما كان مردود بأن الأول غير صالح للمانعية بل الثاني أيضا كذلك مع أن الفائدة يظهر في الإعسار و اليسار و في الحلول و التأجيل و الإذن و عدمه و كذا يجوز التسلسل بلا إشكال"[1] .

 

لا زال الحديث في كتاب الضمان وتحديداً في إطار بيان المسائل الفرعية والتي قد لا تقع بعضها في الواقع إلا لماماً، ولكن بإعتبار أنها مذكورة في كتب الأصحاب فإننا نجري على مجراهم.

الدور في الضمان

من المسائل مسألة الدور في الضمان، فبعد أن قلنا بجواز التسلسل في الضمان هل يصح الدور فيه أم لا؟ وذلك بأن يكون المضمون عنه الأول هو الضامن عن المضمون عنه الأخير؟

قال بعض الفقهاء بعدم صحته، لعدم عقلائية المعاملة، فعليٌ يضمن عامر وزيد يضمن علي وعامر يضمن زيد، فكيف يمكن أن يكون المضمون عنه ضامنا؟

وقال بعض الفقهاء أن هذه المعاملة من المعاملات العرفية شأنها شأن سائر العقود العرفية، فإذا قبل العرف بها _ولو في ظروف معينة _ يقبل مثل هذه المعاملة، لإعتماد العرف على حكمة وعلة عندهم، ومثل ذلك أن يضمن أحدهم رجلاً ويكون ضامن الضامن أخاه، وهكذا يتسلسل الضامنين حتى يعود على المضمون عنه الأول، كل ذلك ليستوثق المضمون له لماله أكثر وأكثر، إذ قد يموت أحد الضامنين أو يفلس أو يكون من الصعوبة الظفر بأحد الضامنين فيرجع للآخرين، كما في حالات الحروب أو الأوبئة أو ظروف سيطرة الطغاة الذين يعتقلون الناس تعسفاً، ولأن المضمون له يريد ماله فقد يرضى بالدور في الضمان، والفائدة منه أنه يتمكن من إسترجاع ماله من أكثر من شخص.

كما يمكن أن تكون الفائدة في هذا نوع من الضمان، فيما لو طرأ على أحد الضامنين الإعسار، فيرجع إلى الآخر، وبالتالي لا يمكن أن ننفي وجود فائدة للعقد مطلقاً.

 

الضمان بالحق الشرعي

لو كان المديون مستحقاً للحق الشرعي فهل يجوز للضامن أن يضمنه من مال الحقوق الشرعية، كأن يكون المضمون له سيداً فيضمنه الضامن من حق السادة الذي بذمته؟ أو من رد المظالم أو غيرها من العناوين التي يعتبر المضمون عنه محلاً للعطاء؟

لا إشكال في ذلك إن كان المال موجوداً والحق ثابتاً بذمة الضامن، إنما الكلام فيما لو لم يثبت الحق بذمته بعد، فهل يجوز ذلك؟ إستشكل البعض في حالة عدم ثبوت الحق على الضامن، كأن لم تحن سنته الخمسية ولا يعلم تحقق الخمس بذمته عند السنة، فكيف يتعلق الحل بالمال الذي لا وجود له؟ وفي المقابل قال بعض الفقهاء بعدم البأس بهذا الضمان لأن المال محتمل الوجود والحق محتمل التحقق.

ونحن قلنا سابقاً أن باب الضمان يحوي على شيء من التسهيل في هذه الامور، كمن يضمن شخصاً ولا يعلم بثبوت حقٍ عليه فضلاً عن مقداره، فكما أمضينا ذلك هناك نمضي هنا العقد لإحتمالية تعلق الحق بمال الضامن.

وكذلك في ضمان الحاكم الشرعي الذي تؤتى إليه الحقوق الشرعية، مستحقاً لها كأن يضمن طلاب العلم دون أن يكون تحت يده شيء من الحقوق إلا أنه يحتمل مجيء المال. ولقائل أن يقول ماذا لو طرأ طارئ وأفلس صاحب الخمس ولم يتعلق بذمته حقٌ أو لم يأتِ الناس بحقٍ شرعيٍ للحاكم؟

والجواب على ذلك: قد يكون الضمان بهذه الصورة على نحو القيد الإضافي، بأن يضمن الضامن المضمون عنه ويقيد بدفعه من مال الخمس ولو فقد لدفع من غيره، ولا إشكال في الصحة، وفي غير هذه الحالة، إذا كان المضمون له يعلم بالأمر ورضي بذلك، فهو الذي قد أقدم على الإضرار بنفسه، وإلا فله الخيار، ومثله ما لو رضي المضمون له بضمان الضامن المعسر مع علمه بالإعسار فلا خيار له، ومع جهله بإعساره كان له الخيار.

 

الضمان من حق الفقراء

ومن المسائل المشابهة عن جواز ضمان الضامن للفقراء من حقهم والمساكين كذلك قبل ثبوته في ذمته، فهل يصح ذلك؟

قال بعض الفقهاء بعدم الصحة، مستدلين بعدم تعلق الحق بالمال بعدُ لأن التعلق يكون بعد وجود المال عند الضامن، هذا فضلاً عن كون الفقراء المستحقين غير محددين، فتخصيص هؤلاء المعينين فيه إشكال، إلا أن بعض الفقهاء أجاز ذلك كما سيأتي بيانه.

 

بيان السيد الطباطبائي

في مسألة الدور في الضمان قال السيد الطباطبائي في المسألة الثلاثين: "يجوز الدور في الضمان بأن يضمن عن الضامن ضامن آخر و يضمن عنه المضمون عنه الأصيل و ما عن المبسوط من عدم صحته لاستلزامه صيرورة الفرع أصلا و بالعكس (وذلك بأن يصير المضمون عنه ضامناً وبالعكس)[2] ولعدم الفائدة لرجوع الدين كما كان (إذ لا فائدة عند المستشكل بعودة الدين إلى المديون نفسه) مردود بأن الأول غير صالح للمانعية بل الثاني أيضا كذلك (عدم الفائدة، لماذا؟) مع أن الفائدة يظهر في الإعسار واليسار وفي الحلول و التأجيل والإذن وعدمه (فالذي ضمن بغير إذن يكون متبرعاً، وقد يكون ضماناً مضموناً) و كذا يجوز التسلسل بلا إشكال"[3] . وذلك كما بينّا بأن يضمن البنك شخصاً ويقوم بنكٌ آخر بضمان البنك الأول وهكذا[4] ..

وعن المسألة الحادية والثلاثين يقول السيد قدس سره: "إذا كان المديون فقيرا يجوز أن يضمن عنه بالوفاء من طرف الخمس (فالذي يدفع للوفاء يدفع خمس ماله للمضمون له) أو الزكاة أو المظالم أو نحوها من الوجوه التي تنطبق عليه إذا كانت ذمته مشغولة بها فعلا (وهو القدر المتيقن والمتفق عليه) بل وإن لم تشتغل فعلا على إشكال"[5] .

أي قبل أن تشتغل ذمته بعدُ بالخمس أو العناوين الشرعية الأخرى ما دامه يعلم أو يحتمل ثبوتها عليه مستقبلاً، وأما في حال عدم العلم بالحصول على المال وبالتالي ثبوت الحق بذمته، فقلنا أن الضمان خفيف المؤونة من هذه الجهة، فهذا المقدار من الجهل لا يخل بالعقد، كما في حال إحتمال موت الضامن قبل حلول الأجل.

وبيان الإشكال كما يلي: ما دامت الذمة لم تشتغل فكيف يضمن من هذا الشيء؟ لكن قلنا أن هذا لا إشكال فيه مع علم المضمون عنه وإذنه، فقد يمكن أن يكون المضمون عنه فقيراً ومحتاجاً ومستحقاً لحق السادة ولكنه لا يريد حق السادة، فيأذن للضامن بالضامن بعيداً عن حق السادة مثلاً، كأن لا يقبل أخذ الحقوق الشرعية إما للفتوى أو للإحتياط، فلابد من تحقق الإذن.

وأساساً الضمان كما قلنا سابقاً مفتقرٌ إلى نوعٍ من الرضا من المضون عنه، حتى التبرعي منه، فقد يكون المضمون عنه غير راضِ بشخص الضامن أو يستشكل في ماله، وبالتالي هذا عقدٌ عن ذمة المضمون عنه.

 

الدين حقٌ شرعي

وفيما لو عكست المسألة بأن كان الدين هو حقٌ شرعي بذمة المضمون عنه، فقام الضمان بضمانته أمام الحاكم الشرعي، قال السيد اليزدي قدس سره في المسألة الثانية والثلاثين: "إذا كان الدين الذي على المديون زكاة أو خمسا‌ جاز أن يضمن عنه ضامن للحاكم الشرعي".

فيضمن للحاكم الشرعي بإعتباره ولياً في الأمور الحسبية، بإعتبار أن الفقيه الجامع للشرائط هو ولي أمرها.

ولكن الكلام فيمن يضمن عن صاحب المال للمستحقي الحقوق، فهل يجوز ذلك؟

فبالتالي لم يتعلق الحق الشرعي لهذا المستحق أو لذلك، ومن هنا قال السيد: "بل و لآحاد الفقراء على إشكال"[6] . وذلك بإعتبار أن الحق ليس لهم فكيف يتعين وفي التعين إشكال.

إلا أن الفقهاء أجابوا عن ذلك بأن أكثر من آية قرآنية يظهر منها أنه حق الأصناف المستحقة مثل قوله تعالى: {وَ الَّذينَ في‌ أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم‌* لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُوم‌}[7] ، وكذلك الآيات الدالة على مصارف الصدقات وما أشبه. وأما التخصيص لهؤلاء فهو كذلك ولكن يمكن أن يتخصص لهم عبر الضمان، فالضمان هو الذي يخصص الحق لآحاد الفقراء وإن لم يكن مخصصاً قبله، وكأن صاحب المال يقول للفقير أنا سأعطيك حقك والضامن يضمنني على ذلك.

وفيه نظر إذ لا يحق للمكلف تخصيص الحق لشخص ما؟ فهل يجوز للمكلف أن يشترط مصرفاً خاصاً لحقوقه الشرعية؟ نعم يجوز له الإقتراح أو التوصية، أما إشتراط الصرف في وجه معين فذلك من شؤون الفقيه وليس المكلف ذاته.

 

الضمان في مرض الموت

هل المريض بمرض الموت له أن يضمن المديون؟

في المسألة تفصيل، فإن قلنا بأن منجزات المريض في مرض الموت هي في ثلث ماله فقط فيشكل الضمان لو كان تبرعاً وزاد على الثلث، فلا يصح إلا بمقدار ثلث ماله فقط، أما إذا كان الضمان بإذن المضمون عنه وبالتالي يرجع عليه فيجوز، لعودة المال إليه كالدين و شبهه.

أما لو قلنا بأن منجزات المريض تكون في جميع ماله فيجوز مطلقاً، قال السيد قدس سره في المسألة الثالثة والثلاثين: "إذا ضمن في مرض موته‌ فإن كان بإذن المضمون عنه فلا إشكال في خروجه من الأصل لأنه ليس من التبرعات‌ بل هو نظير القرض و البيع بثمن المثل نسيئة و إن لم يكن بإذنه فالأقوى خروجه من الأصل كسائر المنجزات نعم على القول بالثلث يخرج منه"[8] .

 

ضمان المشروط بالمباشرة

إن كان الدين على الشخص مشروطاً بالمباشرة، كأن يخيط ثوباً أو يبني بناءاً أو يرسم خارطةً ما، فليس للضامن أن يضمنه لوجود شرط المباشرة، لأن شرط المباشرة يلغي دور الضامن، ولذا قال قدس سره في المسألة الرابعة والثلاثين: "إذا كان ما على المديون يعتبر فيه مباشرته لا يصح ضمانه كما إذا كان عليه خياطة ثوب مباشرة"[9] .

 


[2] بيان السيد المرجع الأستاذ دام ظله.
[4] يلاحظ عليه ان التسلسل لا يقصد به التسلسل المنطقي الذي يعني التسلسل الى ما لا نهاية وإلا فإنه يلزم منه محذور عقلي لإستحالته والمحال العقلي محال شرعاً، إن قلت: فماذا عن الدور فهو محال أيضاً، قلت: إن المراد من الدور هنا ليس توقف الضمان على الضمان وإنما دوران الضمان حتى يعود للأول ولا يلزم منه محذور عقلي فتبدر. [المقرر].
[5] المصدر.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo