< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/07/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الإذن بوضع الجار جذع بناءه على الحائط والتصالح عليه /كتاب منازعات الملك

 

يبدو أن الباب الذي أسسوه بعد كتاب الصلح في الحديث عن النزاعات في الملك أقرب ما يكون إلى باب تنظيم العلاقات الإجتماعية في المدن بالرغم من تسميتهم له بـ(أحكام النزاع)، وفي إطار هذا التنظيم يذكر المحقق الحلي قدس سره مسألة ترتبط بالعلاقة بين الجارين، حيث قال في المسألة الثانية: "إذا التمس وضع جذوعه على حائط جاره لم يجب على الجار إجابته‌ ولو كان خشبة واحدة لكن يستحب"[1] ، وعدم وجوب الإستجابة وإستحبابه هو قول الإمامية كلهم بقولٍ واحد، وذهب بعض العامة كالمالكي والشافعي – في أحد قوليه- إلى الوجوب، واستدلوا على ذلك برواية أبي هريرة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قوله: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره"[2] وفيها:

أولاً: ضعف السند وثانياً: يبدو أن الرواية وردت في إطار وصايا النبي صلى الله عليه وآله في الجار ورعاية حقوقهم، وروايات النبي الاكرم صلى الله عليه وآله في هذا الإطار كثيرة مثل حديث: "ومَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُه‌"[3] ، فتحمل الرواية على تلك النصوص، خصوصاً مع مخالفتها للأصول المتفق عليها كقول أبي عبد الله عليه السلام: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِءٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ"[4] ، نعم؛ يمكن القول بالإستحباب لقاعدة التسامح.

وكيف كان فليست المسألة ذات إشكالية كبيرة لإجماع فقهائنا من جهة وموافقة قولهم للقواعد العامة من جهة، وضعف سند الرواية من جهة ثالثة، كلها تفيد القول بعدم وجوب الإجابة للجار، ولكن يمكن أن يشمل الإستحباب أكثر من مجرد الإجابة لوضع الجذع على الحائط، بل يمكن أن يعمم على تمرير الإسلاك أو مد الأنابيب من تحت الدار أو غير ذلك من الأمور التي يحتاج الإنسان فيها إلى جاره.

 

الرجوع بعد الإذن

وقع الخلاف بين الفقهاء فيما لو أذن لجاره بوضع الجذعة أو شبهها ثم أراد الرجوع فهل له ذلك؟

والرجوع قد يتصور قبل قيام الجار بفعلٍ ما، أو بعد قيامه بتمهيدات لوضع الجذع (كوضع اسس أو رسم خارطة وفقاً للإذن) أو بعد وضعه للجذعة، قال المحقق الحلي قدس سره: "و لو أذن جاز الرجوع قبل الوضع إجماعا و بعد الوضع لا يجوز لأن المراد به التأبيد و الجواز حسن مع الضمان"[5] .

فيجوز الرجوع قبل الوضع إجماعاً، وإن قام بتمهيدات أو مقدمات كرسمه للخرائط وشبه ذلك، وذلك لأن الإذن بذلك عارية والعواري مستردة لأنها من العقود الجائزة التي يرجع فيها الطرفان متى شاءا.

وإن قيل كيف يرجع وقد بنى على الإذن الأسس وغيرها، يقال: البناء تم له لا للآذِن، ومع فرض وجود الضرر فعليه أن يدفع له ما خسره من باب لاضرر ولا ضرار.

أما فيما لو بنى ووضع بناءه وأراد الرجوع عن إذنه فاختلفت كلمة الأصحاب، فقال الشيخ الطوسي قدس سره بعدم الجواز، لأن في الرجوع إضرارٌ بالجار بعد بناءه ومراد المعير هو التأبيد، وذهب المحقق الحلي إلى الجواز مطلقاً، غاية الأمر أنه يضمن الضرر.

وذكر المحقق النجفي قدس سره عن الشافعية خمسة أقوال في هذه المسألة وهي:

الأول: له الرجوع، ويتخير بين البقاء بالأجرة والقلع بالأرض.

الثاني: له الرجوع والقلع بالأرش، أما البقاء بالأجرة فيفتقر إلى رضاهما.

الثالث: له الرجوع وله الأجرة خاصة دون القلع.

الرابع: له الرجوع والقلع بلا أرش.

الخامس: لا يجوز له الرجوع.[6]

والوجوه الخمسة تعتمد على أن العارية عقد جائز وبالتالي يمكن لأيٍ من الطرفين الرجوع في أي وقت، أما ما يترتب على الرجوع ففيه بحثٌ آخر.

ولكن الشيخ الطوسي[7] رضوان الله عليه ومن تبعه قالوا بعدم الجواز لأن العارية هنا تفيد التأبيد كالإذن بالدفن في الأرض حيث لا يجوز التراجع أو العارية فيما تعلق بها حق الغير كما لو أعاره سيارته فرهنها.

وناقش المحقق النجفي في هذه الأمثلة حيث عدّ الأول من القياس الباطل وذهب إلى أن حرمة الرجوع هو لحرمة النبش، وفي الثاني لتعلق حق الغير في العين المرهونة الأمر الذي يقتضي اللزوم من طرف الراهن بخلاف ما نحن فيه حيث لا حرمة على المالك في خراب ملكه.

ولكن المحقق النجفي – وبعد حوار مفصّل – يعود ليرجح قول الشيخ قدس سره، لأن الشيخ قال بكون الإذن عارية وليست العواري مثل بعض، أوليس الناس أحرار في تنظيم عقودهم فيما بينهم والعقد شريعة المتعاقدين؟ فلتكن إذاً هذه عارية مؤبدة أو عارية لا رجوع فيها، فمادام الطرفان بنيا أمرهما على أن يكون البناء للتأبيد – كما أشار إلى ذلك المحقق الحلي – فهو كذلك ولا رجوع فيه، كالدفن في الأرض، أو الإذن بالصلاة حيث لا يجوز له أن يرجع عن الإذن في وسط الصلاة بل لابد أن ينهي المصلي صلاته.

وبكلمة: مادامت العارية عقد، والعقد يتبع القصد، ويجب على المتعاقدين الوفاء بما اتفقا عليه، بناءاً على ذلك يجب على الآذن الإلتزام بإذنه ولا يجوز له الرجوع.

 

الإذن والإنهدام

لو انهدم سقف الجار وأراد أن يعيد البناء وبالتالي يعيد وضع الجذعة فمن الطبيعي يحتاج إلى إذن جديد وبالتالي يجوز للجار أن لا يأذن، لأن التأبيد في الإذن كان مادام البناء قائماً وإذ لا بناء يجوز التراجع، إلا إذا كان هناك ضرر.

ولنا أن نتسائل: لم لا نعتبر ثبوت الحق للجار في هذا الجدار كما في السيارة المستعارة والمرتهنة حيث يتعلق بها حق المرتهن ولا يحق لمالكها حينئذ التراجع، وبالتالي يشمله "لا يتوى حق امرء مسلم"، هذا ما دفع المحقق قدس سره الى قوله: "أما لو انهدم لم يعد الطرح إلا بإذن مستأنف و فيه قول آخر"[8] .

والقول الآخر هو للشيخ حيث ذهب إلى عدم الحاجة إلى إذن جديد مع إرادة إعادة البناء كما كان، ولا دليل عليه.

 

المصالحة على الوضع

قال المحقق قدس سره: "و لو صالحه على الوضع ابتداء جاز بعد أن يذكر عدد الخشب ووزنها وطولها"[9] ، لأن الصلح عقد لازم ولا يمكن نقضه من الطرفين، وأما ذكر عدد الخشب وصفاته فلا يشترط بالدقة لأن الصلح أوسع من سائر العقود ويجوز فيه ما لا يجوز في غيره والله العالم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.


[6] قال المحقق النجفي في الجواهرالكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج26، ص258. قلت: الأصل في هذه المسألة ما حكاه في التذكرة عن الشافعية، و محصله خمسة وجوه:‌أحدها أن له الرجوع و يتخير بين البقاء بالأجرة و القلع بالأرش، قال فيها:و هو أظهر قوليها.و الثاني: أن له الرجوع و القلع بالأرش، و أما البقاء بالأجرة فمتوقف على رضاهما بذلك، و هو خيرة ثاني الشهيدين و المحققين، و استحسنه في المتن.الثالث: أن له الرجوع و لا يجوز له النقض، و انما له الأجرة خاصة، و مال اليه الشهيد في الدروس.الرابع: أن له الرجوع و القلع مجانا.الخامس: أن ليس له الرجوع، بمعنى أنه لا يستفيد به جواز قلع و لا اجرة، و هو الذي اختاره الشيخ و من تبعه، بل هو ظاهر المصنف
[7] قال الشيخ قدس سره: و في المبسوط «لا رجوع حتى يخرب، لأن البناء للتأبيد و للضرر، و لو قلنا بالرجوع ففي غرمه الأرش وجهان، من استناد التفريط الى المستعير، و من لحوق ضرره بفعل غيره».]جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج26، ص257[.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo