< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/01/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: إعتبار القبول في الوصية

 

أكدت الآيات الشريفة على مسؤولية الإنسان، كقوله سبحانه: ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً﴾[1] ، وقوله تعالى: ﴿وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾[2] ، وقوله عزوجل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾[3] .

ولا يمكن أن تفرض عليه مسؤوليةً ما إلا إذ أعطيت له صلاحية في قبال تلك المسؤولية، ومن هنا قالوا: (الناس مسلطون على أنفسهم) ومن التسلط على النفس يكون التسلط على المال لتبعية المال للإنسان.

ومن هنا؛ فلا يمكن لأحدٍ أن يفرض على الآخر شيئاً ومن دون وجهٍ شرعي، كأن يبيعه شيئاً بالإكراه، إذ لا يمكن إدخال شيءٍ في ملكيته بغير إرادته ورضاه.

وفي هذا المجال يأتي الحديث عن الوصايا العهدية، فهل هي من العقود أو الإيقاعات؟ وبعبارة أخرى: هل يشترط فيها قبول الموصى إليه ورضاه أم لا؟

بناءاً على ما ذكرناه من صلاحية الإنسان وسلطته على نفسه، وهو أصلٌ معروفٌ وثابت، فلا يمكن القول بفرض الموصي وصيته على شخصٍ دون إرادته، فهي عهدٌ تحتاج إلى من يتقبلها.

وقد يقال: لماذا لا نشترط هذا القبول في عهد الله سبحانه ووصيته للإنسان، كعهده لنبي آدم بعدم عبادة الشيطان؟

فيقال: بوجود القبول والرضا من قِبَل الإنسان، وذلك في عالم الذر والميثاق حيث قال الله سبحانه: ﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني‌ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‌ شَهِدْنا﴾[4] ، وبعدئذٍ فإن عهد الله سبحانه للإنسان لا يحتاج إلى قبول ورضا الإنسان، وهو أولى به من نفسه، وهو أمرٌ فطري بعد الحاجة للقبول بعد ثبوت الولاية الكبرى.

وكيف كان؛ فالعهد بحاجة إلى قبول من الطرف الآخر، وهي على أنواع:

الأول: التصريح بالقبول، فيكون قبوله كما في سائر العقود.

الثاني: السكوت الدال على الرضا، إذ قد يرى العرف عدم ردّه قبولاً بالوصية.

الثالث: عدم الرد ولكن دون أن يكون دالاً على رضاه، وفي هذا لا يكفي عدم الرد لتحقق القبول.

نقول: من الناحية الأولية، فإن كل تكليف وتحميل من شخص لآخر لا يكون إلا بقبول الآخر، سواء بقبوله الصريح أو عدم رده، إن كان يعني ذلك قبولاً عند العرف، إذ لا يدل كل سكوتٍ على القبول، ومن هنا؛ فكل عهدٍ هو الآخر بحاجة إلى إستجابةٍ من الوصي وقبوله.

والوصية المبحوثة هنا، هي تلك الوصايا العهدية التي ترتبط بقيام الوصي بأعمالٍ معينة، كدفن الموصي في مكانٍ معيّن، فإن حصل في مثل هذه الوصية قبولاً أو ردّا صريحاً فلا إشكال، وإن سكت بما يدل على الرضا عرفاً فلا إشكال أيضاً، وإلا فلا دليل على إلزام الغير ما لم يرضَ به، لتسلط الإنسان على نفسه.

بين العقد والإيقاع

وأساساً فالفرق بين العقد والإيقاع قد يكون بسيطاً في بعض الموارد، فقد يكون الإيقاع هو الآخر مفتقراً إلى قبولٍ ورضا، كما في الهبة[5] ، حيث لا يجب على المتهب قبول الهبة، بل له أن يرفضها.

ومن هنا، ففي مثل ابراء الذمة من الدين كلامٌ في حاجته للقبول أو عدم حاجته، حيث ذهب الفقهاء إلى عدم إعتبار القبول فيه، بيدَ أن ذلك قد يسبب ضرراً على المدين. نعم؛ قد لا يكون الإبراء نقلاً وإنتقالاً، بل يكون من جهة عدم مطالبة الدائن بحقه.

 

بيان العلامة الطباطبائي

قال العلامة الطباطبائي قدس سره: " الوصية العهدية لا تحتاج إلى القبول" (وقد مرّ الحديث عنه، والمحكي عن بعض الفقهاء بأن الوصية عقدٌ تفتقر إلى القبول، كما في القواعد[6] وجامع المقاصد[7] ، بل ذهب في الحدائق[8] إلى أن مشهور الفقهاء بل ظاهر كلماتهم الإتفاق عليه، وحينئذٍ فمن الصعب القول بعدم الحاجة إلى القبول، رغم سكوت المعلقين عن هذا الرأي وتأكيد البعض عليه كالمرجع الحكيم قدس سره، حيث قال في المستمسك: "ما ذكره المصنف مما لا ينبغي الإشكال فيه"[9] ، وهو قولٌ يفتقر إلى المستند.

ثم قال المصنف: "‌و كذا الوصية بالفك كالعتق (كما لو قال إذا متّ فعبيدي كلهم عتقاء، وهذا هو العتق المدبّر أو قوله إذا مت فأرضي مسجد، والإشكال في هذا النوع من الفك هو عدم التنجيز فيه، فإن قلنا بإشتراطه لم تصح الوصية به، أما إذا قلنا بأن شرط التنجيز إنما اعتبر لأن تكون العقد لا يكون إلا به، أو لقيام الإجماع عليه، وبالتالي فإنه دليلٌ لبيٌ لا عموم فيه فلا يشمل المقام، صحت الوصية، وهذا ما يراه العقلاء أيضاً إلى أن هذا النوع من العهد – وهو من الإيقاع- لا يحتاج إلى التنجيز، ومن هنا نحن نثني على كلام العلامة الطباطبائي في صحة هذا النوع من الوصية دون الحاجة إلى قبول أحد) و أما التمليكية (وذلك بأن يملك الموصي بيته لشخصٍ معيّن) فالمشهور على أنه يعتبر فيها القبول (لأن إدخال ملكٍ في ذمته تصرّف في إرادته، وهو بحاجة إلى قبوله) جزءا (لعقديته، والقبول فيه جزءٌ كالقبول في أي عقدٍ ىخر) و عليه تكون من العقود أو شرطا (بأنه يدخل في ملكه إلا في حالة رفضه) على وجه الكشف أو النقل (فالكشف يكون النقل فيه من حين الوصية وتكشف بالموت، والنقل هو كون الإنتقال من حين الموت) فيكون من الإيقاعات و يحتمل قويا عدم اعتبار القبول فيها بل يكون الرد مانعا و عليه تكون من الإيقاع الصريح و دعوى أنه يستلزم الملك القهري و هو باطل في غير مثل الإرث مدفوعة بأنه لا مانع منه عقلا و مقتضى عمومات الوصية ذلك مع أن الملك القهري موجود في مثل الوقف‌"[10]

 


[1] سورة الإسراء: الآية 13.
[2] سورة الصافات: الآية 24.
[3] سورة المدثر: الآية 38.
[4] سورة الأعراف: الآية 172.
[5] حتى ذهب البعض إلى أنها من العقود لا الإيقاعات .[المقرر].
[6] قال في القواعد: ج2، ص282: " الغالب: في أن الوصية بما فيه نفع المعين يتوقف على قبوله". [المقرر].
[7] قال في جامع المقاصد: ج10، ص10: " لما كانت الوصية عقدا اعتبر فيها مع الإيجاب القبول كسائر العقود، إلّا أن يكون الموصى له غير معيّن كالفقراء و بني هاشم، أو تكون الوصية في مصلحة كنحو مسجد و قنطرة". [المقرر].
[8] قال في الحدائق الناضرة: ج22، ص390: " المشهور في كلام الأصحاب بناء على وجوب القبول في الوصية كما هو المتفق عليه ظاهرا في كلامهم"، بيْد أن الشيخ البحراني قدس سره، أختار عدم وجوب القبول في موضعٍ آخر من كتابه، حيث قال في ج22، ص385: " إذا عرفت ذلك، فاعلم أنى لم أقف في الأخبار على ما يدل على وجوب ‌القبول، و ان كانت الوصية لمعين، بل ربما ظهر من إطلاقها العدم، و أنه لا يتوقف على أزيد من الإيجاب بالألفاظ المذكورة، إلا أنه خلاف ما يفهم من عامة كلامهم." [المقرر].
[9] مستمسك العروة الوثقى: ج14، ص536.
[10] العروة الوثقى: ج2، ص876.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo