< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/01/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسائل الوصية/ وراثة حق قبول الوصية

 

مسألة: توريث حق قبول الوصية

هل الإرث تشريعٌ إلهيٌ محض، أم هو حقيقةٌ فطريةُ ثابتةٌ أقرّها الشرع المقدس وأطرها بأطرٍ شرعية؟

يبدو أن الإرث ليس حكماً شرعياً فقط، بل مضافاً إلى ذلك من الأمور الفطرية المتفق عليها بين البشر، فالمعروف أن إمتداد الإنسان هم ورثته من بعده، وبالتالي فإن تركته -أو معظمها- تنتقل إليهم، بل نجد أن البعض يذهب إلى ورثة الميت الذي ظلموه في حياته، ليعتذروا إليهم مما بدر منهم.

ومن هنا، فإن مفهوم التركة -بالإستعانة إلى ما ذكر من كون الإرث أمراً فطرية- مفهومٌ يتجاوز الأمور المادية، فالحقوق هي الأخرى تكون من التركة التي يرثها الورثة، كحق الشفعة وحق الخيار وحق التحجير، وما أشبه.

وفي باب الوصية، طرح العلامة الطباطبائي قدس سره، مسألةً عن إنتقال حق القبول في الوصية، وذلك فيما لو أوصى شخصٌ لآخر بشيءٍ، فمات الموصى له قبل القبول، فهل يرجع حق القبول أو رد الوصية إلى ورثته أم لا؟

نحن نقول بإنتقال ذلك إلى ورثته، فكل حقٍ من الحقوق القابلة للإنتقال فإنها تنتقل إلى الوارث إلا ما خرج بالدليل، وهي التي يعبّر عنها في الإصطلاح بالـ"حكم" وهي لا تنتقل، وهكذا فإن الحقوق -حتى المستحدثة منها- تنتقل إلى الورثة، كحق السبق أو حق الوكالة الحصرية في البيع، أو ما أشبه.

وفي المقام نصوصٌ عديدة، يظهر من بعضها التعارض، واعتمد المشهور على صحيحة محمد بن قيس الآتية على توريث حق القبول أو الرد، ولكن قبل ذكر الروايات، نتسائل عن السبيل في معالجة التعارض الحاصل بين أخبار المقام؟

يكون ذلك بدراسة الأصول الشرعية الحاكمة في المقام، وهي محكمات الشرع المقدس -كأصل البرائة والصحة والإباحة وما أشبه- فإذا كانت الروايات الخاصة تخالف الأصول العامة، عملنا بها -بعد ثبوت صحتها- من باب التخصيص، ولكن نحاول أن نجد الموائمة بين الأصول العامة والروايات الخاصة، لأصالة عدم التخصيص.

وفيما نحن فيه، إذا مات الموصى له، فهل تنتقل الوصية -بحسب الأصول العامة في الشرع- إلى ورثته أم لا؟

أولاً: إن صرّح الموصي بالتخصيص بالموصى له والمنع من الورثة، فلا ينتقل هذا الحق إلى الورثة لتحديده سلفاً، وكما يقال: "ضيّق فم الركية"، وكذا لو صرّح بالشمول.

ثانياً: إن لم يصرّح الموصي بجهةٍ من الجهات، فالظاهر أن الموصي يرى في وصيته الموصى له وورثته.

والذي يبدو من الروايات في المقام أنها وردت طبقاً لهذا الظاهر، وبذلك فهي موافقةٌ للأصل، أو على الأقل موافقة للظاهر، فربما تكون الوصية للورثة أولى وأهم، كما لو كان في نظر الموصي فقر الموصى له فأوصى له، فمات وترك عيالاً فقراء.

نعم، لو كان الظاهر خلاف ذلك، لسببٍ من الأسباب فيكون هو المتبع في منع الورثة من حق القبول أو الرد، وربما يكون ذلك أحد المحامل التي تحمل عليها الروايات المخالفة في المقام.

روايات المقام

أما الروايات الواردة في هذه المسألة، فهي التالية:

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فِي رَجُلٍ أَوْصَى لآِخَرَ وَ الْمُوصَى لَهُ غَائِبٌ فَتُوُفِّيَ الَّذِي أُوصِيَ لَهُ قَبْلَ الْمُوصِي قَالَ: الْوَصِيَّةُ لِوَارِثِ الَّذِي أُوْصِيَ لَهُ قَالَ وَ مَنْ أَوْصَى لِأَحَدٍ شَاهِداً كَانَ أَوْ غَائِباً فَتُوُفِّيَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْمُوصِي فَالْوَصِيَّةُ لِوَارِثِ الَّذِي أُوصِيَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ فِي وَصِيَّتِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ[1] .

وهذه الصحيحة هي العمدة في المقام، وهي صريحةٌ في دلالتها على المطلوب، إلا أن البعض قد أشكل في سندها من جهة محمد بن قيس، بيد أن ذلك لا يعتنى به بعد إعتبار صحتها أو حسنها -كما عن المشهور-، وروايات محمد بن قيس عن أقضية أمير المؤمنين عليه السلام، جمعها في كتابٍ واحد وهي معتبرة.

ومما يؤيد صحة هذه الرواية -مضافاً إلى سندها- مخالفتها لفتوى العامة، وكذلك موافقتها للقواعد والأصول العامة في الشرع من توريث الحقوق، وإعتماد ظاهر الحال في وصايا الموصي.

ومما یقوي دلالة الرواية على المطلوب، وجود الإستثناء فيها، مما يدل على كون المتكلم في مقام بيان أطراف المسألة.

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ السَّابَاطِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام- عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى إِلَيَّ وَ أَمَرَنِي أَنْ أُعْطِيَ عَمّاً لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَيْئاً فَمَاتَ الْعَمُّ فَكَتَبَ عليه السلام: "أَعْطِهِ وَرَثَتَهُ"[2] .

     عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أُوْصِيَ لَهُ بِوَصِيَّةٍ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا وَ لَمْ يَتْرُكْ عَقِباً قَالَ: "اطْلُبْ لَهُ وَارِثاً أَوْ مَوْلًى فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَعْلَمْ لَهُ وَلِيّاً قَالَ اجْهَدْ عَلَى أَنْ تَقْدِرَ لَهُ عَلَى وَلِيٍّ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ وَ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْكَ الْجِدَّ فَتَصَدَّقْ بِهَا"[3] .

     عَنْ مُثَنَّى بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قال: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أُوصِيَ لَهُ بِوَصِيَّةٍ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا وَ لَمْ يَتْرُكْ عَقِباً قَالَ: "اطْلُبْ لَهُ وَارِثاً أَوْ مَوْلًى فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" قُلْتُ إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُسَمَّ وَ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَلِيٌّ، قَالَ: "اجْهَدْ أَنْ تَقْدِرَ لَهُ عَلَى وَلِيٍّ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ وَ عَلِمَ اللَّهُ مِنْكَ الْجَهْدَ تَتَصَدَّقُ بِهَا"[4] .

والإستدلال بالآية يفيد أهمية الوصية، وعدم جواز التصرف فيها بغير ما يريد الموصي، فتبديلها إثمٌ، ومن تنفيذها وعدم تبديلها -كما في الرواية- هو تنفيذها على الورثة.

وفي مقابل هذه النصوص، هناك روايتان متطابقتان في اللفظ:

     عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ فَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْمُوصِي قَالَ: "لَيْسَ بِشَيْ‌ءٍ"[5] .

     عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ إِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ فَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْمُوصِي قَالَ: "لَيْسَ بِشَيْ‌ءٍ"[6] .

وبالرغم من صحة سند الروايتين، وتطابق عبارة جواب الإمام عليه السلام، إلا أن تعبير "ليس بشيءٍ" مجمل، فهل الضمير راجع إلى الوصية، أم إلى موت الموصى له؟

الأظهر هو الثاني، إذ لو كان العَود إلى الوصية، لكان الأصح أن تكون العبارة :"ليست بشيء"، وبهذا الحمل لا تعارض بين الطائفتين.

ومع ثبوت التعارض، فإنهما يحملان على التقية، لموافقتهما رأي العامة -عدا الحسن البصري الذي لم يكن يأبه الائمة عليهم السلام، بآرائه الفقهية، لقلة تابعيه ولقدم عهده- ولذلك طرح علمائنا هاتين الروايتين.

بيان العلامة الطباطبائي قدس سره

قال العلامة الطباطبائي قدس سره: " مسألة إذا مات الموصى له قبل القبول أو الرد‌فالمشهور قيام وارثه مقامه في ذلك، فله القبول إذا لم يرجع الموصي عن وصيته، من غير فرق بين كون موته في حياة الموصي أو بعد موته، وبين علم الموصي بموته وعدمه، وقيل (نسب هذا القول البعض إلى ابن الجنيد والعلامة في المختلف) بالبطلان بموته قبل القبول، و قيل بالتفصيل بين ما إذا علم أن غرض الموصي خصوص الموصى له فتبطل، وبين غيره فلورثته (أي لابد من التثبت في قصد الموصي، هل يقصد شخص الموصى له فتبطل بموته، أم هو واسرته فتنتقل) والقول الأول و إن كان على خلاف القاعدة مطلقا بناء على اعتبار القبول في صحتها (لأن الوصية لا تكتمل إلا بالقبول) لأن المفروض أن الإيجاب مختص بالموصى له و كون قبول الوارث بمنزلة قبوله ممنوع (فلا يقع محل قبول الموصى له، وفيه أن ذلك ممنوع، فإن كان حقاً فإنه ينتقل إلى الورثة كسائر الحقوق التي تنتقل بالموت) كما أن دعوى انتقال حق القبول إلى الوارث أيضاً محل منع صغرىً و كبرىً لمنع كونه حقاً (صغرى، ولنا ان نسأل عن معنى الحق؟ وقلنا في محله أن الحق يطلق على كل صلة بين الإنسان وبين شيءٍ ما، وفيما نحن فيه تكونت علاقة بين الشخص والموصى به) و منع كون كل حق منتقلاً إلى الوارث (كبرى المسألة، وفيه أنه يشمل ما ترك، والقاعدة الفطرية في أن الإنسان يحفظ في تركته مشمولٌ أيضاً) حتى مثل ما نحن فيه من الحق الخاص به الذي لا يصدق كونه من تركته (فما الفرق بين هذا الحق وسائر الحقوق التي تنتقل وقيل عنها هناك بأنها من التركة ولا يقال ذلك فيما نحن فيه)، وعلى ما قوينا من عدم اعتبار القبول فيها بل كون الرد مانعاً (وهو ما خالفناه فيما مضى) أيضا يكون الحكم على خلاف القاعدة في خصوص صورة موته قبل موت الموصى له لعدم ملكيته في حياة الموصي، لكن الأقوى مع ذلك هو إطلاق الصحة كما هو المشهور و ذلك لصحيحة محمد بن قيس الصريحة في ذلك، ( ونحن نراها موافقةً للأصول كما مرّ)، حتى في صورة موته في حياة الموصي المؤيدة بخبر الساباطي و صحيح المثنى و لا يعارضها صحيحتا محمد بن مسلم و منصور بن حازم بعد إعراض المشهور عنهما و إمكان حملهما على محامل منها التقية لأن المعروف‌ ‌بينهم عدم الصحة نعم يمكن دعوى انصراف الصحيحة عما إذا علم كون غرض الموصي خصوص شخص الموصى له على وجه التقييد بل ربما يقال إن محل الخلاف غير هذه الصورة لكن الانصراف ممنوع و على فرضه يختص الإشكال بما إذا كان موته قبل موت الموصي و إلا فبناء على عدم اعتبار القبول بموت الموصي صار مالكا بعد فرض عدم رده فينقل إلى ورثته‌"[7] .

 


[1] الكافي ( ط. الإسلامية): ج7، ص13.
[2] المصدر.
[3] المصدر.
[4] مستدرك الوسائل: ج14، ص114.
[5] تهذيب الأحكام: ج9، ص231.
[6] المصدر.
[7] العروة الوثقى: ج2، ص882.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo