< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/03/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الرجوع عن الوصية /1

 

الوصية جائزةٌ بلا خلاف، سواءاً قلنا بأنها عقدٌ أم قلنا بأنها إيقاعٌ -كما هو المختار-، حيث أنها كما الإحسان إلى الآخرين في مثل الهبة غير المعوضة إيقاع.

ومعنى الجواز في الوصية، أنها لا تلزم إلا بموت الموصي، لتنجزها حينئذٍ، أما قبل ذلك فللموصي أن يرجع عن وصيته متى شاء، وإن لزم ذلك تركاً لبعض الإلتزامات الأخلاقية، كما لو كان قد أخبر الموصي شخصاً بأنه أوصى داره له، وقبل الموصى له، فبالرغم من الإلتزام الأخلاقي إلا أن للموصي أن يرجع عن الوصية لعدم لزومها، وكذا لو أوصى بأزيد من ثلث تركته فأجاز الورثة، ثم رجع عن ذلك، فإجازتهم لا تعني إلزامه بالوصية.

وهل له أن يرجع عن الوصية إن كان قد نذر بها؟

بالرغم من أن النذر يوجب الوصية، إلا أنه لا يجعلها لازمة، فله الرجوع عنها رغم إرتكابه الإثم لمخالفته النذر، وهكذا لو أمره الحاكم الشرعي بالإيصاء فأوصى، كان له الرجوع.

كيفية الرجوع

وقد يتحقق الرجوع بالتصريح اللفظي به، كما يمكن أن يكون بالتصرف الفعلي بالعين الموصى بها، أو يوصي بالعين لغير الموصى له الأول، لا بنحو الشراكة بينهما، كما لو قال ادفعوا بيتي لفلانٍ، بل لفلان.

وقد يكون الرجوع بالكتابة أو الكناية أو سائر الطرق الدالة على إلغاء الوصية السابقة.

قال المحقق قدس سره عن أساليب الرجوع: "و يتحقق الرجوع بالتصريح أو بفعل ما ينافي الوصية فلو باع ما أوصى به أو أوصى ببيعه أو وهبه و أقبضه أو رهنه كان رجوعا"[1] .

وهكذا كل عملٍ آخر يدل على الرجوع فهو كذلك، أما إذا لم يكن العمل دالاً على قصد الرجوع كرهن العين الموصى بها، مع إرادته ردّ الدين، فلا يتحقق الرجوع.

أما مجرد القيام بمقدمات الرجوع عن الوصية، كما لو عرض العين الموصى بها للبيع، فهل يدل على الرجوع أم لا؟

بحسب العادة يكون ذلك دالاً على الرجوع، إلا إذا استظهرنا أن فعله لم يكن على نحو القصد في التراجع عن الوصية، لأصالة بقاء الوصية على حالها، قال المرجع الشيرازي قدس سره: " وكيف كان، فإذا كانت قرينة على أحد الطرفين فهو، وإلا كان الاستصحاب محكماً"[2] .

وسنتعرض لاحقاً للأساليب العملية المختلفة الدالة على الرجوع.

 

إستظهار تصرفات الموصي

وقبل الخوض في المسائل التفصيلية للرجوع وكيفيته، لابد أن نقول: المعتمد في أفعال العباد هو الظاهر، فإن كان ثمة ظاهرٌ في أعمالهم وأقوالهم فهو المتبع، وإلا فالمرجع إلى الأصل، فلو قال هذه ألفٌ لزيد ثم قال هذه الألف لعمرو، فهل يقصد ذات الألف أم غيرها، وكذا لو قال إدفعوا لزيدٍ ألفاً ثم قال إدفعوا له ألفين، فهل يقصد إلغاء الألف الأول أم إضافة الألفين إلى الألف؟

في مثل هذه الموارد علينا أن نستظهر عمل وقصد الموصي، فلو كان -في الفرض الأول- قد سأل عن مقدار ثلثه فأخبر بأنه ألفاً، فأوصى بها لزيد، ثم أوصى بألفٍ لعرو، فلابد أن نرجع إلى القرائن لنعلم أن الألف الثانية هل هي بقصد إلغاء الوصية الأولى أم بقصد كونها من الزائد عن الثلث بما يحتاج إلى إجازة الورثة، وكذا الأمر في المثال الثاني، نرجع إلى ما لو كان في الكلام ظهورٌ لدى العرف، فنأخذ بالظاهر، وإلا فالأصل هو المتبع، والأصل في مثل هذه الأمور هو الإستصحاب، بإبقاء الوصية الأولى.

وقبل التعرض للمسائل التفصيلية لهذه المسألة، نذكر جملةً من روايات هذا الباب المؤكدة على جواز رجوع الموصي عن وصيته مادام حياً:

     عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، أَنَّ الْمُدَبَّرَ مِنَ الثُّلُثِ وَ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْقُضَ وَصِيَّتَهُ فَيَزِيدَ فِيهَا وَ يَنْقُصَ مِنْهَا مَا لَمْ يَمُتْ"[3] .

     عَنْ يُونُسَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ علیه السلام: "لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَيِّرَ وَصِيَّتَهُ فَيُعْتِقَ مَنْ كَانَ أَمَرَ بِمِلْكِهِ وَ يُمَلِّكَ مَنْ كَانَ أَمَرَ بِعِتْقِهِ وَ يُعْطِيَ مَنْ كَانَ حَرَمَهُ وَ يَحْرِمَ مَنْ كَانَ أَعْطَاهُ مَا لَمْ يَمُتْ"[4] .

     عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: "لِلْمُوصِي أَنْ يَرْجِعَ فِي وَصِيَّتِهِ إِنْ كَانَ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ"[5] .

فلا فرق بين حالة الصحة أو المرض عند الموصي، ذلك لأن منجزات المريض لا تعد من ثلثه.

     عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَ يُحْدِثَ فِي وَصِيَّتِهِ مَا دَامَ حَيّاً"[6] .

     عن عيسى بن عبيد قال: " كَتَبْتُ إِلَيْهِ[7] رَجُلٌ أَوْصَى لَكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ بِشَيْ‌ءٍ مَعْلُومٍ مِنْ مَالِهِ وَ أَوْصَى لِأَقْرِبَائِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَ أُمِّهِ ثُمَّ إِنَّهُ غَيَّرَ الْوَصِيَّةَ فَحَرَمَ مَنْ أَعْطَى وَ أَعْطَى مَنْ حَرَمَ أَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟ فَكَتَبَ عليه السلام: "هُوَ بِالْخِيَارِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ"[8] .

     عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ قَالَ إِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ فِي مَرَضِي هَذَا فَغُلَامِي فُلَانٌ حُرٌّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: "يَرُدُّ مِنْ وَصِيَّتِهِ مَا يَشَاءُ وَ يُجِيزُ مَا يَشَاءُ"[9] .

     عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَيَابَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "إِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ فَأَوْصَى بِوَصِيَّةٍ عِتْقٍ أَوْ تَصَدُّقٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ مَا أَعْتَقَ وَ تَصَدَّقَ وَ يُحْدِثُ فِيهَا مَا يَشَاءُ حَتَّى يَمُوتَ وَ كَذَلِكَ أَصْلُ الْوَصِيَّةِ"[10] .

فكما له أن يحدث في التفاصيل تغييراً له أن يجري في أصل الوصية ذلك.

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ دَبَّرَ مَمْلُوكاً لَهُ ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى ثَمَنِهِ فَقَالَ: "هُوَ مَمْلُوكُهُ إِنْ شَاءَ بَاعَهُ وَ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ وَ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَمُوتَ فَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِهِ"[11] .

نسيان الوصية الأولى

إن نسي الموصي وصيته الأولى، فقام بالإيصاء مجدداً، فإن ذلك يدل على بطلان الوصية الأولى لأن الأصل إبطال الوصية الثانية للأولى.


[1] شرائع الإسلام: ج2، ص190.
[2] الفقه: ج61، ص214.
[3] الكافي: ج7، ص12.
[4] الکافي، ج7، ص12.
[5] الكافي: ج7، ص12.
[6] الكافي: ج7، ص12.
[7] علي بن محمد عليه السلام.
[8] من لا يحضره الفقيه: ج4، ص233.
[9] تهذيب الأحكام: ج9، ص191.
[10] تهذيب الأحكام :ج9، ص191.
[11] الكافي: ج6، ص185.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo