< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/05/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الوصية للكافر

هل تجوز وصية المسلم للكافر أم لا مطلقاً، أم التفصيل بين ما لو كان حربياً أو ذمياً فيمنع في الأول دون الثاني، أو التفصيل بين ما لو كان من الأرحام أو لم يكن؟

قبل بيان المختار في المسألة لابد من بيان أمرين:

الأول: فيما يتصل بعلاقة المسلم بالكافرين، فجزءٌ منه يتعلق بالظروف المحيطة والمصالح العامة، وبذلك لا يمكن الحكم المطلق، لإختلاف الظروف والمصالح كما في الحرب أو السلم أو غيرها، فرب ظرفٍ استدعى الغلظة وآخر تطلب اللين والمرونة.

ثانياً: بالرجوع إلى الآيات القرآنية التي تحدد العلاقة مع الكفار، نجد أن سورة الممتحنة تحوي آيتان، إحداها تنهي عن العلاقة مع الكفار والآخرى تبيح ذلك، ففي بداية السورة يقول الله سبحانه: (﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً في‌ سَبيلي‌ وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتي‌ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبيل)﴾[1]

فالظاهر من عدم إتخاذهم اولياء هو عدم إتخاذهم قادةً وعدم إتباعهم، وإن شملت كلمة ( الولي) معنى الصديق، فحتى لو كان الكافر من الأرحام فلابد من مقاطعته لقول الله سبحانه: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصير﴾[2]

ولكن في الآية الثامنة من نفس السورة يبين الرب سبحانه حدود العلاقة بحسب طبيعة الكافر، حيث يقول: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين‌ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى‌ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون‌﴾[3]

فالكافر بصفةٍ عامة تجب مقاطته، إلا إذا لم يكن ممن يعادي المسلمين فمن الممكن التواصل معه والقسط إليه والبر به، خصوصاً إذا كان من الأرحام، أما الكافر الحربي الذي ينابذ المسلمين العداء فلابد من منابذته.

وغير الحربي على قسمين:

فمنهم أهل الذمة الذين رضوا بشروط الذمة واستوطنوا البلاد الإسلامية، فصاروا جزءاً من الدولة الإسلامية.

ومنهم من لم يدخل البلدان الإسلامية ولكن تصالحوا مع المسلمين، وهم المعاهدون.

وبذلك فإن الكفار على ثلاثة أصناف: الحربيون والذميون والمعاهدون.

فالحربي الذي بدأ المسلمين بالقتال، فلا يجوز التعامل معه وتقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة للمسلمين.

ولكن غير الحربي فقد تقتضي المصلحة البرّ بهم، وما فعله الإمام الحسين عليه السلام بأصحاب الحر من سقي الماء يمكن حمله على أنهم لم يكونوا قد صنفوا بالمحاربين لعدم وقوع السيف بينهم، والنبي صلى الله عليه وآله أرسل غنائم خيبر إلى مكة لتوزع على فقرائها بالرغم من كفرهم وتعاونهم على إخراج النبي من قبل، ففعل صلى الله عليه وآله ذلك لتأليف قلوبهم واستدراجاً لهم للدخول إلى الحق.

ومن هنا فإن الوصية للكافر تجوز إن كان ذمياً أو معاهداً، أما إذا كان حربياً وكان في ذلك مصلحة – التي تحددها القيادة الرسالية- فتجوز الوصية إليه، أما في غير حالة المصلحة، هل تجوز الوصية للكافر؟ قيل بجواز الوصية إلى المحارب، ولكنه بحاجة إلى تأمل، ولذلك المشهور ذهب إلى المنع [4]

روايات المقام

أما الروايات فمنها ما يدل صريحاً على جواز الوصية للكافر، ومنها ما يظهر منها عدم الجواز:

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ : "أَعْطِهِ لِمَنْ أَوْصَى بِهِ لَهُ وَ إِنْ كَانَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى يَقُولُ- فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ". [5]

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عليهما السلام فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: "أَعْطِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى يَقُولُ- فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ"[6] .

     عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ شَبِيبٍ قَالَ: أَوْصَتْ مَارِدَةُ لِقَوْمٍ نَصَارَى فَرَّاشِينَ بِوَصِيَّةٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا اقْسِمْ هَذَا فِي فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِكَ فَسَأَلْتُ الرِّضَا عليه السلام فَقُلْتُ إِنَّ أُخْتِي أَوْصَتْ بِوَصِيَّةٍ لِقَوْمٍ نَصَارَى وَ أَرَدْتُ أَنْ أَصْرِفَ ذَلِكَ إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مُسْلِمِينَ فَقَالَ: "أَمْضِ الْوَصِيَّةَ عَلَى مَا أَوْصَتْ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ"[7] .

     عَلِيٍّ وَ أَبِي جَعْفَرٍ وَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليهم السلام أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ نُفِّذَتْ مِنْ ثُلُثِهِ وَ إِنْ أَوْصَى بِهَا لِيَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ فِيمَا أَوْصَى بِهِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فِيهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى- فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ يَعْنُونَ ع إِذَا جَعَلَهَا فِيمَا يَجُوزُ لِلْحَيِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَإِنْ أَوْصَى بِهَا فِي غَيْرِ مَا يَجُوزُ لَمْ يَجُزْ" [8]

وفي مقابل هذه النصوص ثمة روايات يظهر منها المنع، ويمكن حملها على كون الموصى له كافراً حربياً أو غير ذلك من المحامل:

     أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام- يَسْأَلُهُ عَنْ يَهُودِيٍّ مَاتَ وَ أَوْصَى لِدُيَّانِهِمْ فَكَتَبَ عليه السلام: "أَوْصِلْهُ إِلَيَّ وَ عَرِّفْنِي لِأُنْفِذَهُ فِيمَا يَنْبَغِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ"[9]

     كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ بِلَالٍ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عليهما السلام- يَهُودِيٌّ مَاتَ وَ أَوْصَى لِدُيَّانِهِ بِشَيْ‌ءٍ أَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ آخُذَهُ فَأَدْفَعَهُ إِلَى مَوَالِيكَ أَوْ أُنْفِذُهُ فِيمَا أَوْصَى بِهِ الْيَهُودِيُّ فَكَتَبَ عليه السلام: "أَوْصِلْهُ إِلَيَّ وَ عَرِّفْنِيهِ لِأُنْفِذَهُ فِيمَا يَنْبَغِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ"[10] .

     قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "إِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِوَصِيَّةٍ- فَلَا يَحِلُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُغَيِّرَ وَصِيَّتَهُ يُوصِيهَا، بَلْ يَمْضِيهَا عَلَى مَا أَوْصَى، إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ فَيَعْصِيَ فِي الْوَصِيَّةِ وَ يَظْلِمَ- فَالْمُوصَى إِلَيْهِ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى الْحَقِّ مِثْلُ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ وَرَثَةٌ- فَيَجْعَلُ الْمَالَ كُلَّهُ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَ يَحْرِمُ بَعْضاً- فَالْوَصِيُّ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى الْحَقِّ- وَ هُوَ قَوْلُهُ «جَنَفاً أَوْ إِثْماً» فَالْجَنَفُ الْمَيْلُ إِلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ دُونَ بَعْضٍ- وَ الْإِثْمُ أَنْ يَأْمُرَ بِعِمَارَةِ بُيُوتِ النِّيرَانِ وَ اتِّخَاذِ الْمُسْكِرِ- فَيَحِلُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ لَا يَعْمَلَ بِشَيْ‌ءٍ مِنْ ذَلِكَ" [11]

ولا ريب أن الوصية بالحرام محرمٌ، ولكن الوصية للكافر خصوصاً مع وجود مصلحة لا يعد محرماً، ومن هنا فإن قول المشهور هو المنصور من صحة الوصية للكافر الذمي والمعاهد، والمنع من الوصية للكافر الحربي، والله العالم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo