< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/06/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 13/ نصوص فضل العلم، ودور العلماء 9/ مسؤوليات الحاكم الإسلامي 3

مسؤوليات الفقيه أو الحاكم الشرعي، هي ذاتها مسؤوليات الأمة، وإنما يقوم الفقيه بتوجيه الأمة لتطبيقها، وقد تحدثنا عن مسؤوليته في التزكية والتعليم وبناء المجتع.

وبقي الحديث عن سائر المسؤوليات، ومنها نظم أمر المجتمع وتحويله إلى بنيانٍ مرصوص، والمستند في ذلك أمورٌ ثلاث:

الأول: التأسي بسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام، بعد أن أمر الله سبحانه بإقتفاء أثرهم حيث قال تعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ في‌ رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثيرا﴾[1] ، وبالرغم من إجمال السيرة -كما قيل- فإن القدر المتيقن منها حجةٌ يؤخذ بها.

الثاني: وكذا يمكن الإستدلال لهذه المسؤوليات بعد ثبوت كونها مقدمةً لتحقيق جملةٍ من الأهداف الضرورية للمجتمع -كما سيأتي بيان ذلك-، فلو لم يتحقق واجبٌ شرعي إلا مع الوحدة ونظم الأمر، كانت المقدمة واجبةٌ لتحقيق ذلك الواجب.

الثالث: النصوص الشريفة، والتي لم تكن تهدف بيان الحقائق فقط، وإنما تربية الأمة عليها، ولذلك وردت بشكلٍ متناثر مع دعوة الإنسان إلى قرائتها بشكلٍ شمولي وعام، وعدم تجزئتها، لأن التركيز على النص الجزئي من دون ملاحظة سائر النصوص يمنع من فهم الحقائق كلها، ومثال ذلك: إن من يقرأ قوله سبحانه: ﴿وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى﴾[2] ، قد لا يلاحظ قوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى‌ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى‌ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُن﴾[3] ، أو قوله تعالى: ﴿وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا﴾[4] ، ولكن مع التدبر فيها جميعاً نستفيد أن التعاون لا يمكن أن يتحقق إلا بتصفية النفوس من الإستهزاء ولا يتحقق إلا بالوحدة.

وهذا ما يقوم به الفقيه بالجمع بين النصوص في أبواب العبادات المختلفة، حيث يجمع آية الوضوء مع آية القبلة، مع آية المواقيت وما أشبه.

السيرة

من خلال سيرة المعصومين عليهم السلام، نجد بوضوح أنهم كانوا يقودون الأمة، برجوع الناس إليهم في المتغيرات أيضاً، وكانوا يأمرون الناس بأمورٍ معينة وإن لم يكونوا مبسوطي اليد في الحكم.

ومن بعد الائمة عليهم السلام، كانت سيرة العلماء من بعدهم على ذات النهج.

النصوص

أولاً: النصوص التي تتصل بقاعدة الوحدة، كالآيات المرتبطة بتنقية النفوس من شوائب العصبية، وإعطاء رؤية جديدة لتقييم الناس، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‌ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبير﴾ [5] ، وقد أمر سبحانه بعدم التعالي على الآخر والإستهزاء به وإساءة الظن به وإستغابته: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى‌ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى‌ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون * يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحيم﴾[6]

وفي سورة التوبة ذكر الرب سبحانه قانوناً عاماً بقوله: ﴿وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْض﴾[7] ، وأقل درجات الولاية هو الإعانة، وأعلى درجاته أن يتولّى أحدهم الآخر.

ثانياً: النصوص المبينة لصفات المؤمنين، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقاتِلُونَ في‌ سَبيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوص﴾[8] ، والآية وإن كان موردها الحرب، ولكنها تبيّن صفةً عامةً للمجتمع الإسلامي المطلوب، بأن يكون متراصاً كالبنيان المرصوص، الذي يتصف بجمال الظاهر وقوة الباطن، تمهيداً لمرحلة الحرب أيضاً.

ثالثاً: تهيئة ظروف الوحدة، من وجود قيادة متبّعة، فالإمام محور الوحدة لأنه يقودهم بإتجاهٍ واحد، والمجتمع الإسلامي تبدأ قيادته بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ومن ثم أوصياءه وخلفاءه، ومن بعدهم العلماء الربانيون؛ وفي سورة آل عمران بيانٌ لمكانة القيادة في مجال الوحدة، قال تعالى: ﴿وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى‌ عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ *يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى‌ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[9]

فالإعتصام بالآيات بدون الرسول أو العكس لا يكون إعتصاماً بالله سبحانه، وبالتالي يؤدي إلى الكفر، ومن هنا فإن الإعتصام لابد أن يكون بالثقلين.

والظاهر من قوله سبحانه ( إلا وأنتم مسلمون) أي مسلّمون للقيادة وللكتاب المنزل عليها، ثم أمر الله سبحانه بعدئذٍ بالوحدة.

وفي سورة النساء يبيّن الرب أن طاعة الرسل -وهم قادة الأمم- توّفر أجواء الوحدة، من خلال إتباعهم في الشؤون الشخصية وفي أمور الحرب والسلم والإحتكام إليهم في الخلافات، قال الله سبحانه: ﴿وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحيماً* فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في‌ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْليماً * وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَليلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبيتاً﴾ [10]

وبملاحظة جملة هذه الآيات وغيرها من الآيات الشريفة، تتضح ملامح المجتمع الإسلامي المطلوب، الذي يتبع القائد الرباني وإن لم يكن مبسوط اليد في المجال السياسي، وهذه النقطة المحورية التي غفلنا عنها، وهي أن العالم -وإن كان إماماً على مسجد- هو وليٌ لأهل المسجد، وعليه أن يربيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويجمع شملهم وينظم صفوفهم.

الأصول العامة في الدين

نستفيد من القيم والأصول العامة في الدين، مثل حفظ النفس وحفظ المال والتقدم في الحياة، نراها هي الأخرى تتوقف على النظام الإجتماعي الإسلامي، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لولديه ومن بعدهما لمن بلغه كتابه: (أُوصِيكُمَا وَ جَمِيعَ وَلَدِي وَ أَهْلِي وَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَ نَظْمِ أَمْرِكُمْ)[11] ، فما هي الأمور التي تحتاجها الأمة وتتوقف على الوحدة والنظم؟

أولاً: الحضارة

الحضارة أو حسب التعبير القرآني في سورة قريش "إيلاف"؛ والتعبير القرآني أدق لشموله الحضور المادي والمعنوي ( تآلف القلوب والأنظمة)، وهذا التآلف إنما صنعه الرب سبحانه عبر آيات كتابه، فكأن المؤمن يشعر بوحدة روحه مع أخيه بالرغم من تباعد الأجساد.

وللحضارة شعبٌ أبرزها الإطعام من جوع، حيث البشر بحاجة إلى الطعام والشراب والمسكن، والأمور الحياتية الضرورية، والتي قدمها الرب سبحانه على الشعبة الثانية وهي الأمن.

ولا يمكن للحضارة أن تتحقق من دون وجود قيادة، ومن دون وحدة حقيقية في المجتمع تؤدي إلى التعاون.

ثانياً: طبيعة العلاقة بين أبناء المجتمع الإسلامي

فيما يرتبط بالعلاقة بين أبناء المجتمع الإسلامي، بيّن الرب سبحانه في كتابه أربعة ركائز هي:

الأولى: التشاور، الذي يجمع العقول المختلفة إلى بعضها البعض، والأمر بالتشاور جاء في موارد مشورة القائد للأمة، وفي امر العائلة، وفي الأمور العامة للأمة.

الثانية: التواصي، بالحق والصبر والمرحمة؛ ودورها تقوية الإرادة والروح، ومن التواصي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.

الثالثة: التعاون؛ الذي يقوّي القدرات العملية.

الرابعة: الإحسان؛ الذي يقوم بإعانة الطبقة الهشة في المجتمع.[12]

وتطبيق هذه الركائز الأربعة، لا يمكن أن يتحقق بصورةٍ كاملة إلا ضمن مجتمعٍ متحدٍ ومنظم.

ثالثاً: الأمن والدفاع

من أعظم ما يحتاجه أي مجتمع هو الأمن والدفاع من الأخطار، وهو بدوره يتوقف على الوحدة والنظم في المجتمع، فلا يمكن للمجتمع المتناحر أن يدافع عن نفسه، قال تعالى: ﴿وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ﴾[13] ، والوحدة هي الأخرى قوةٌ لمواجهة العدو، تدخل في عموم القوة المأمور بها، خصوصاً إذا علمنا بأنهيار المجتمع أمام الأعداء من دونها.


[11] نهج البلاغة: من وصية له عليه السلام لما ضربه ابن ملجم.
[12] لمزيد من التفصيل عن هذه الركائز، راجع: (ركائز المجتمع الإيماني) للمقرر.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo