< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ سامر عبید

بحث الأصول

40/05/16

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: التعارض/تعارض الأدلة /التعارض في اصطلاح الأصوليين

لا ريب في اختلاف الأصوليين عن المحدثين في مصطلح التعارض؛ إذ يصطلح عليه المحدثون ب(مختلف الحديث)، ويراد به الحديثان اللذان بينهما اختلاف في جهة من الجهات، وإن كانا قابلين للاجتماع والتوافق.

وأمّا في عرف الأصوليين، فهناك تعريفان أساسيان للتعارض هما قطب رحى أبحاث المفكرين و المحققين منهم، وهما التعريف المنسوب إلى المشهور، وهو على ما حكي عن صاحب الفصول والمحقق القمّي والشيخ الأعظم وغيرهم: تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد[1] ، والتعرف الذي تبناه المحقق الخراساني في الكفاية مظهراً فيه وجه إعراضه عن تعريف المشهور، وهي: تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقةً أو عرضاً بأن علم كذب أحدهما إجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً[2] .

والكلام في هذين التعريفين في نقاط:

النقطة الأولى: شرح وتوضيح مقاصد المشهور من التعريف على ما أوضحه المتأخرون.

النقطة الثانية: شرح وتوضيح مقاصد المحقق الخراساني من تعريفه على ما شرحه تلامذته والمعلقون على الكفاية.

النقطة الثالثة: بيان مواضع الاختلاف بين التعريفين.

النقطة الرابعة: رأي المدارس الأصولية للمتأخرين حول التعريفين.

النقطة الخامسة: الرأي المختار حول التعريفين، وصولاً إلى التعريف المختار.

ولنشرع فيها تباعاً:

النقطة الأولى: مقاصد المشهور من التعريف:

ذكر في تعريف المشهور عدّة قيود لابدّ من تحديد المراد مسبقاً قبل الحكم عليه، وهي التنافي، مدلولي الدليلين، على وجه التناقض، أو على وجه التضاد.

أمّا قيد (التنافي): فهو بمنزلة الجنس، ويراد به أنّ كلّ واحدٍ من الدليلين يلغي الدليل الأخر وينفيه، مأخوذ من النفي، وهو لغةً الطرد والدفع، ومثاله: ما دلّ على وجوب صلاة الجمعة في ظهر يوم الجمعة ، وما دلّ على سقوط وجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة، فهنا تنافى الدليلان في الحكم، فالأول يثبت الوجوب بالإطلاق الشامل لزمن الغيبة، والثاني ينفيه، فصدق عليهما أنهما متنافيان.

والظاهر أنّ مرادهم من التنافي هنا التكاذب المانع عن التصديق بهما معاً، بحيث لابدّ من كذب أحدهما على الأقل، ولذا فلو أمكن التصديق بهما بأي وجه خرجا عن التنافي المفترض، وسيتضح هذا أكثر عند توضيح سائر القيود الأخرى إن شاء الله.

وأمّا قيد (مدلولي الدليلين): فيراد به أنّ التنافي لمفترض في التعارض هو التنافي بين المدلولين فضلاً عن التنافي بين الدليلين، وهذا ما يحتاج إلى مزيد توضيح وبيان، فنقول:

إنّ التنافي بين الدليلين بدواً له صور، وهي:

الصورة الأولى: التنافي الجعلي الخطابي، وهو بمعنى أن يكون مورد التكاذب بينهما هو إنشاء الحكمين وجعلهما، بحيث يكون جعل أحدهما يُكذب جعل الآخر وإنشائه، وينفيه بمجرد جعله، كإنشاء وجوب صلاة الجمعة وإنشاء عدم وجوبها، فهما متكاذبتان على مستوى الجعل والإنشاء، فإنّ أصل إنشاء عدم وجوبهما يُكذب إنشاء الوجوب.

الصورة الثانية: التنافي المجعولي الفعلي؛ وهو التنافي في فعلية الخطابين ومنجزيتهما ومحركيتهما، مع عدم المنافاة بينهما في مقام الجعل والإنشاء، كما لو أمر الشارع بالوضوء على واجد الماء، وأمر بالتيمم على فاقده، فلا يتصور التنافي بينهما في عالم الجعل، إذ لا يتسع تصديقهما لعدم التكاذب بينهما؛ إذ موضوع الأول هو الواجد للماء، وموضوع الثاني هو الفاقد له، فلا تنافي، ولكن من حيث الفعلية والتنجيز و المحركية لا يمكن أن يجتمعان على المكلف الواحد؛ لأنّ المكلف إن كان واجداً للماء تنجز عليه وجوب الوضوء، وإن كان فاقداً له تنجز عليه وجوب التيمم، ولا يمكن أن يتنجزان معاً، لاستحالة اجتماع الواجد والفاقد في مكلفٍ واحد.

الصورة الثالثة: التنافي الأدائي الامتثالي، وهو يتصور فيما لو لم يكن بين الدليلين تنافي من حيث الجعل والمجعول، ولكن قدرة المكلف لا تتسع لهما من حيث الامتثال، كما في حالات الأمر بالضدين على وجه الترتب، كما لو أمر الشارع بالصلاة، وأمر بإزالة النجاسة من المسجد، وعند ضيق وقت الصلاة بحيث لا يكفي إلاّ لأدائها رأى المكلف نجاسة على المسجد، وكان اشتغاله بإزالة النجاسة مفوتاً للصلاة في وقتها، فهنا لاريب في عدم المنافاة بين الجعلين لتغاير موضوعيهما، كما لا تنافي بين المجعولين، لإمكان أن يزيل النجاسة ثمّ يصلي في الحالات الاعتيادية، ولكن التنافي في حالات ضيق الوقت بسبب عدم قدرة المكلف عن امتثاليهما معاً.

إذا اتضحت هذه الصور فلا ريب في أنّ الصورة الثانية ليست من التعارض بل هي داخلة في الورود- على ما سيأتي توضيحه- كما لا ريب في خروج الصورة الثالثة أيضاً؛ لأنّها داخلة في التزاحم، ولا تكاذب بين المتزاحمين.

وأمّا الصورة الأولى فيصدق عليها التنافي بمعنى التكاذب، ولكن لا بلحاظ الدليلين، بل بلحاظ المدلولين، لأنّ الجعل من حيث هو اعتبار سهل المؤونة وهذا ما عناه المشهور من التنافي بين مدلولي الدليلين، أي بين المفادين ولحكمين الذين سيق الجعلين لأجل إيصالهما إلى المكلف.

وأمّا قيد (على وجه التناقض أو التضاد): فهو لبيان أنّ التنافي بين مدلولي الدليلين له مرتبتان، فمرةً يكون على وجه التناقض، وأخرى على وجه التضاد، والفرق بينهما أنّه إذا كان التنافي بين الدليلين يتردد بين الإثبات والنفي، كما لو قام دليل على الوجوب وآخر على نفي الوجوب كان التنافي بين الدليلين تنافي تناقضي، وأمّا إذا كان التنافي بين الدليلين على وجه أحدهما يثبت حكماً والآخر يثبت حكماً آخر مغايراً له، كما لو قام الدليل على الوجوب وقام الآخر على الحرمة فالتنافي بينهما تنافي تضادي.

نعم في التنافي التناقضي يستحيل كذب كلّ من الدليلين؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، لذا لا يكذبان معاً، بل لابدّ من كذب أحدهما فقط، وهذا بخلاف التنافي التضادي، فإنّه من الممكن كذبهما معاً فتصدق الإباحة مثلاً؛ لإمكان ارتفاع الضدين فيما لهما ضدّ ثالث، كما جاء في علم الميزان، وعلى هذا فمراد المشهور من التعارض هو تكاذب حكمي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo