< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

38/03/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع :القنوت في الصَّلاة (8)

 

ومنها : أنَّ الأعلام (رضوان الله عليهم أجمعين) لا يطلقون اسم القنوت إلَّا على الدُّعاء بالكيفيَّة المعهودة ، ويقولون : يستحبّ في صلاة الآيات خمس قنوتات ، ولا يقولون بمثله في صلاة الأموات التي ليس فيها رفع اليدين ، مع أنَّها دعاء ، ولا يطلقون أيضاً هذا الاسم على سائر الأدعية المنسوبة في الصَّلاة ، أو في غيرها .

ويؤيِّد ذلك : أنَّ المحقِّق الأردبيلي (رحمه الله) نفى الإشكال عن استحباب الدُّعاء بعد الرُّكوع في الوتر ، ومنع من ثبوت القنوت بعد الرُّكوع .

وكذلك المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى ، فإنَّه بعد أن أفتى باستحباب هذا الدُّعاء قال : (وسمَّاه في المعتبر قنوتاً ... )[1] ، وهذا واضح على أنَّ القنوت في عرف الفقهاء عمل خاص مشتمل على رفع اليدين ، والله العالم .

الأمر الثاني : قال المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى : (يستحبّ رفع اليدين به تلقاء وجهه مبسوطتين ، يستقبل ببطونهما السَّماء ، وظهورهما الأرض ، قاله الأصحاب - إلى أن قال : - وقال المفيد يرفع يديه حيال صدره ، وحكى في المعتبر قولاً يجعل باطنهما إلى الأرض ، ويفرِّق الإبهام عن الأصابع قاله ابن إدريس ، ويستحبّ نظره إلى بطونهما ، ذكره جماعة - إلى أن قال : - ويمسح وجهه بيديه ، ويمرهما على لحيته وصدره قاله الجعفي ، وهو مذهب بعض العامّة) انتهى كلامه رُفِع في الخلد مقامه .

وذكر المصنِّف (رحمه الله) هنا - أي في الدروس - استحباب تفريق الإبهامين فيه ، ومقتضاه استحباب ضمّ الأصابع عداهما .

أقول : أمَّا كون الرّفع إلى حيال الوجه فقدِ استدل له جماعة من الأعلام ، منهم المصنِّف (رحمه الله) الذكرى ، بصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) - في حديث- (قال : ترفع يديك في الوتر حيال وجهك ، وإن شئت تحت (فتحت) ثوبك)[2] .

والظَّاهر أنَّ الأفضل هو الرَّفع إلى تلقاء الوجه ، ولا بأس بما دونه ، كما يفهم ذلك من الصَّحيحة المتقدِّمة ، وهي قوله : (وإن شئت تحت ثوبك).

والظَّاهر أنَّه أريد به الرَّفع غير البالغ إلى ذلك الحدّ الذي يحتاج غالباً إلى إخراج اليد من الثوب .

ومنه تعرف أنَّ ما حُكي عن الشَّيخ المفيد (رحمه الله) - من القول بجواز الرّفع إلى حيال الصدر ، وعن الشَّيخ نجيب الدين (رحمه الله) أنَّه استحسنه - لا بأس به إن أراد بذلك الرّخصة ، وكونه أدنى المراتب الذي تتأدَّى به السُّنة ، وإن أراد انحصار الوظيفة بذلك فالصّحيحة المتقدّمة حجّة عليه .

وأمَّا كونهما (مبسوطتين مستقبلاً ببطونهما السَّماء وظهورهما الأرض) كما هو المعروف بين الأعلام ، فقد استدلّ له المصنِّف (رحمه الله) في الذِّكرى بصحيحة عبد الله بن سنان المتقدِّمة (وترفع يديك حيال وجهك ، وإن شئت تحت ثوبك وتتلقى بباطنهما السَّماء) .

ولكنَّ هذه الصَّحيحة نقلها الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه ، والشَّيخ (رحمه الله) في التهذيب عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال : تدعو في الوتر على العدو ، وإن شئت سمّيتهم ، وتستغفر ، وترفع يديك في الوتر حيال وجهك ، وإن شئت تحت ثوبك) [3] بإسقاط قوله : (وتتقلى ببطونهما السماء ) .

ومن هنا احتمل بعض الأعلام أنْ يكون ما في الذِّكرى من الزِّيادة اشتباهاً نشأ من أخذ الرِّواية من المعتبر ، حيث إنَّه رواها نحو ما في الفقيه والتهذيب .

ثمَّ قال بعدها : (وتتلقَّى بباطنهما السَّماء ، وقيل : بظاهرهما ، وكلا الأمرين جائز ... ) .

واستدلَّ أيضاً لجعل باطنهما نحو السَّماء بما ذكَره الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه قال : (ورُوي عن أبي حمزة الثُّمالي ، قال : كان عليّ بن الحسين (عليه السَّلام) يقول في آخر وتره - وهو قائم - : رَبِّ أَسَأْتُ ، وَظَلَمْتُ نَفْسِي ، وَبِئْسَ مَا صَنَعْتُ ، وَهَذِهِ يَدَايَ يَا رَبِّ جَزَاءً بِمَا صَنَعَتَا ، قال : ثم بسط يديه جميعا قدام وجهه ، وَهَذِهِ رَقَبَتِي خَاضِعَةً لِمَا أَتَيْتُ ...) [4] [5] .

 

وفيه أوَّلاً : أنَّها ضعيفة بالإرسال ، إذ لم يُسْندها الصَّدوق (رحمه الله) إلى أبي حمزة الثمالي مباشرةً ، بل قال : (ورُوي عن أبي حمزة) .

وثانياً : يظهر منها أنَّ البسط قدَّام الوجه إنَّما هو عند هذا القول في القنوت ، لا من أوّله ، وهو خلاف ما عليه الأعلام من أنَّه لا بدّ أنْ يكون كذلك من أوَّله .

والإنصاف : هو الاستدلال لذلك - أي جعل باطنهما نحو السَّماء - بالسِّيرة القطعيَّة بين المشترِّعة والكاشفة عن كونه هو الكيفيَّة الواصلة إليهم يداً بيد من الشَّارع .

أضف إلى ذلك : أنَّه المتبادر إلى الذِّهن من إطلاق الرَّفع تلقاءَ الوجه .

ومنه تعرف أنَّ ما حكاه في المعتبر قولاً - بجعل باطنهما إلى الأرض - في غير محلّه .

نعم ، ورد في جملة من الرِّوايات أنَّ في دعاء الرغبة بجعل باطن كفَّيْه إلى السَّماء ، وفي دعاء الرَّهبة بجعل ظاهرها إليها ، منها صحيحة محمد بن مسلم (قال : سمعتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) يقول : مرَّ بي رجل - وأنا أدعو في صلاتي بيساري - فقال : يا عبد الله ! بيمينك ؟ فقلت : يا عبد الله ! إنَّ لله تبارك وتعالى حقّاً على هذه كحقِّه على هذه ، وقال : الرَّغبة تبسط يديك ، وتظهر باطنهما ، والرهبة تظهر ظهرهما ، والتضرُّع تحرِّك السَّبابة اليمنى يميناً وشمالاً ، والتبتُّل تحرّك السبابة اليسرى ترفعهما في السَّماء رسلاً وتضعها ؛ والابتهال تبسط يدك وذراعك إلى السَّماء ، والابتهال حين ترى أسباب البكاء) [6] ، وكذا غيرها من الرِّوايات الكثيرة .

وأصل الرغبة هي السِّعة في الشَّيء ؛ والرَّهبة والرهب مخافة مع تحرّز واضطراب ، قال تعالى : ﴿ ويدعوننا رغباً ورهباً [7] .

والتضرُّع هو إظهار الضراعة ، أي الضعف والذل .

والتبتل هو الانقطاع في العبادة ، وإخلاص النية انقطاعاً يختصّ به .

والابتهال في الدُّعاء هو الاسترسال فيه ، قال تعالى : {ثمَّ نبتهِل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}[8] .

وهذه الرِّوايات واردة في مطلق الدُّعاء ، ولا يصحّ الأخذ بها هنا ، لِمَا عرفت من السِّيرة القطعيَّة على جعل باطنهما نحو السَّماء في القنوت .

وأمَّا كونهما منضمتين مضمومتي الأصابع لا الإبهامين ، فلم أقفْ بعد التتبع على على ما يدلّ عليه من النصوص .

وأمَّا استحباب النظر في القنوت إلى باطن الكفَّيْن ، كما هو المعروف بين الأعلام ، فلم أجد فيه نصّاً بالخصوص .

وأمَّا ما حكي عن الجعفي - من استحباب مسح وجهه ويديه عند ردّهما ، ويمرهما على لحيته وصدره ، فلا يوجد فيه نصّ بالخصوص في القنوت .

نعم ، ورد مثل ذلك في مطلق الدُّعاء ، كما في رواية ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال : ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبَّار إلَّا استحيى الله عزَّوجل أن يردّها صفراً حتَّى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتَّى يمسح على وجهه ورأسه)[9] .

ورواها الصَّدوق (رحمه الله) (قال : قال أبو جعفر (عليه السَّلام) : ما بسط عبد يديه - وذكر مثله - ) إلَّا أنَّه قال : (فلا يردّ يديه حتّى يمسح بهما وجهه ورأسه) [10] ، وهي ضعيفة بطريق الكليني بسهل بن زياد ، وفي الفقيه بالإرسال ، قال الكليني : (وفي خبر آخر على وجهه وصدره) [11] ، وهو ضعيف بالإرسال أيضاً .

ولكن في مكاتبة الحميري خلافه ، في الفرائض دون النوافل ، فقد روى الطبرسي في الاحتجاج عن محمَّد بن عبد الله بن جعفر الحميري (أنَّه كتب إلى صاحب الزَّمان (عليه السَّلام) يسأله عن القنوت في الفريضة إذا فرغ من دعائه أن يردّ يديه على وجهه وصدره ، للحديث الذي روي : أنَّ الله جلّ جلاله أجلّ من أنْ يرد يدي عبد صفراً ، بل يملؤها من رحمته ، أم لا يجوز ؟ فإنَّ بعض أصحابنا ذكر أنَّه عمل في الصَّلاة ، فأجاب (عليه السَّلام) : ردّ اليدين من القنوت على الرأس والوجه غير جائز في الفرائض ، والذي عليه العمل فيه إذا رجع يديه من قنوت الفريضة ، وفرغ من الدعاء ، أن يرد بطن راحتيه مع (على خ ل) صدره تلقاء ركبتيه ، على تمهّل ، ويكبّر ويركع ، والخبر صحيح ، وهو في نوافل النَّهار والليل ، دون الفرائض ، والعمل به فيها أفضل) [12] ، وهي ضعيفة بالإرسال .

ومقتضى هذه المكاتبة النهي عن ذلك في الفرائض .

وبناءً على العمل بهذه المكاتبة تختصّ الكراهة بالفرائض ، دون النوافل .

ولكن الذي يهوِّن الخطب : أنَّها ضعيفة السَّند ، والمراد بقوله (عليه السَّلام) : (أنْ يردّ بطن راحتيه مع صدره) هو أنْ يردّ بباطنهما من حذاء صدره .

وقوله (عليه السَّلام) أيضاً : (والخبر صحيح ... ) إشارة إلى ما ذكرناه من رواية ابن قداح ومرسلتي الصّدوق والكليني (رحمهما الله) ، وغيرها مما لم نذكره .

بقي شيء ، وهو أنَّ الأعلام ذكروا أنَّه يكره مجاوزتهما عن الرأس في الفرائض ، كما يدلّ عليه موثَّقة أبي بصير (قال : قال أبو عبد الله (عليه السَّلام) - في حديث - لا ترفع يديك بالدُّعاء في المكتوبة تجاوز بهما رأسك) [13] ، وهي وإن كانت واردةً في الدُّعاء إلَّا أنَّها تعمّ بإطلاقها القنوت إن لم نقل بانصرافها إلى خصوص القنوت ، والله العالم .

 


[4] الفقيه : ج1 / ص311، ح9.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo