الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
38/08/07
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : الرّكوع في الصَّلاة(4)
والذي تبيَّن من خلال التتبع لآراء الأعلام أنَّ هناك أربعةَ أقوالٍ مع إمكان إرجاعها إلى ثلاثة :
الأوَّل : الاجتزاء بوجود رؤوس الأصابع ، وإن لم يصل إلى إمكان الوضع ، ذهب إليه جماعة من الأعلام ، منهم صاحب الحدائق رحمه الله ، بل نسب إلى المشهور على ما في البحار .
قال رحمه الله في الحدائق : (فالمشهور على ما ذكره شيخنا رحمه الله في البحار أنَّ الانحناء إلى أن تصل الأصابع إلى الركبتين هو الواجب ، والزائد مستحبّ)[1] .
ومنهم الشَّهيد الثاني رحمه الله في المسالك ، حيث قال : (والظَّاهر الاكتفاء ببلوغ الأصابع ...)[2] ؛ ومنهم السَّيد محسن الحكيم رحمه الله في المستمسك ، والسَّيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله .
الثاني : الاجتزاء بوجود جُزء من باطن الكفِّ ، التي هي الرَّاحة ، قال في الروض - بعد نقل قول الباقر عليه السلام في صحيحة زرارة (وتمكن راحتيك من ركبتَيْك) - : (والمراد بالراحة : الكفّ ، ومنها الأصابع ، ويتحقّق بوصول جُزء من باطن كلٍّ منهما ، لا برؤوس الأصابع)[3] ، ومثل ذلك عبارته في الرَّوضة ، حيث قال رحمه الله : (والمعتبر وصول جُزء من باطن الكفِّ لا جميعه ، ولا رؤوس الأصابع ، ومثله صاحب جامع المقاصد ، حيث في بعضها - الأخبار - الاكتفاء بوصول أطراف الأصابع ، وإن حمل على الإطلاق التي تلي الكفّ لم يكن بينها اختلاف ، ولم أقف على كلام لأحد يعتدّ به على الاجتزاء ببلوغ رؤوس الأصابع في حصول الركوع)[4] .
الثالث : المعتبر هو بلوغ اليدين عيني الرُّكبة ، أي بحيث يمكن وضع تمام الكفّ على الرّكبتين ، وهو ظاهر هنا ، وفي الذكرى وفي البيان .
قال في الذكرى : (لا يتحقق مسمَّى الرُّكوع شرعاً إلَّا بانحناء الظَّهر إلى أن تبلغ اليدان عيني الرُّكبة إجماعاً ... )[5] ، وقال في البيان : ( الأقرب وجوب انحناء تبلغ معه الكفَّان ركبتيه ، ولا يكفي بلوغ أطراف الأصابع ، وفي رواية : يكفي ... )[6] ، وهو أيضاً ظاهر المحقِّق رحمه الله في المعتبر ، والعلَّامة رحمه الله في التذكرة وجماعة أخرى من الأعلام .
ولكنَّ صاحب الحدائق رحمه الله فَهِم من عبارة المصنِّف رحمه الله في الذكرى الاكتفاء ببلوغ رؤوس الأصابع ، وكذا فَهِم من عبارة العلَّامة في المنتهى ، قال صاحب الحدائق رحمه الله : ( فإنَّ بلوغَ اليدِ يصدق ببلوغ رؤوس الأصابع)[7] ، وكذا فهم من عبارة العلَّامة رحمه الله في المنتهى ، قال صاحب الحدائق رحمه الله : (فإنَّ بلوغَ اليدِ يصدق ببلوغ رؤوس الأصابع) .
الرابع : وصول اليدين ، بحيث يمكن وضع بعض الرَّاحة ، وهو المحكي عن الخراساني رحمه الله في الذخيرة ، ويمكن إرجاع هذا القول إلى القول الثاني الذي اختاره الشَّهيد الثاني رحمه الله في الرَّوض ، والرَّوضة ، بل هو في الواقع راجع إليه .
هذا ، وقد حاول بعض الأعلام إرجاع الأقوال إلى قول واحد ، وذكر بعض القرائن التي لا يستفاد منها إلَّا الظن الذي لا يغني عن الحقِّ شيئاً .
وقال صاحب الجواهر رحمه الله: (ولعلَّ مراد الجميع - عدا الذِّكرى - عند التأمُّل بشهادة القرائن الكثيرة واحد هو الانحناء بحيث تصل اليد إلى الركبة وصولاً لو أراد وضع شيء منها عليها لوضعه ، ولو مجموع أطراف الأصابع حَّتى الإبهام ... )[8] .
هذا ، وقد استدلّ للقول الثالث - وهو وجوب الانحناء بمقدار ما يمكن وضع اليد أو الراحة على الرُّكبة - بعدَّة أدلَّة :
منها : الإجماع المدَّعى من بعض الأعلام ، ومنهم المصنِّف رحمه الله في الذكرى .
وفيه : ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد لا يصلح للحجيَّة ، وإنَّما يصلح للتأييد .
ومنها : أصالة الاشتغال باعتبار أنَّ اليقين بفراغ الذمَّة لا يكون إلَّا بأن ينحني بمقدار تصل يداه إلى الرُّكبتين .
وفيه - بناءً على وصول النوبة إلى الأصل العملي - أنَّ المورد من موارد أصالة البراءة لا الاشتغال ، لأنَّ الأمر بين الأقلّ والأكثر ، وقد ذكرنا في محلِّه أنَّ البراءة العقليَّة ، وكذا النقلية ، تجري في المقام .
ومنها : النبويّ ، وهو ما رواه الجمهور عن أنس (قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إذا ركعت فضع كفَّيك على ركبتَيْك) [9] [10] [11] ، ولكنَّه ضعيف جدًّا ، كما لا يخفى عليك .
ومنها : صحيحة حمَّاد حاكياً لفعل الصَّادق عليه السلام تعليماً لحماد (ثمَّ ركع ، وملأ كفَّيه من ركبتَيْه - إلى أن قال : - يا حماد ! هكذا صلِّ) [12] .
ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (أنَّه قال : إذا أردتَ أن تركعَ فقلْ - وأنت منتصب - : الله أكبر ، ثمَّ اركع ، وقل : اللهمَّ لك ركعت - إلى أن قال : - وتصفّ في ركوعك بين قدميك، تجعل بينهما قدر شبر ، وتمكِّن راحتَيْك من ركبتَيْك ، وتضع يدك اليمنى على ركبتك اليمنى قبل اليسرى ، وبلغ بأطراف أصابعك بين الركبة ... )[13] .
ومنها : صحيحة زرارة الثانية عن أبي جعفر عليه السلام (فإذا ركعت فصفّ في ركوعك بين قدميك ، تجعل بينهما قدر شبر ، وتمكِّن راحتَيْك من ركبتَيْك ، وتضع يدك اليمنى على ركبتك اليمنى قبل اليسرى ، وبلغ أطراف أصابعك عين الرُّكبة ، وفرِّج أصابعك إذا وضعتها على ركبتَيْك ، فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتَيْك أجزأك ذلك ، وأحبُّ إليَّ أن تمكِّنَ كفَّيْك من ركبتَيْك ، فتجعل أصابعك في عين الرُّكبة ، وتفرِّج بينهما ... )[14] .
وفيه - مضافاً لضعف النبويّ - : أنَّ ظاهر هذه الرِّوايات وجوب وضع الكفَّيْن على الركبتَيْن فعلاً لا تقديراً ، وبما أنَّ هناك تسالماً بين الأعلام على عدم وجوب الوضع الفعليّ ، فيتعيَّن الحمل على الاستحباب .
ومع الحمل على الاستحباب فكيف يستفاد وجوب الانحناء بهذا المقدار ، بل الانحناء بهذا المقدار يكون مستحبّاً أيضاً تبعاً لاستحباب وضع الكفَّيْن على الركبتَيْن .
أضف إلى ذلك : أنَّ قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الثانية (فإن وصلتْ أطرافُ أصابعك في ركوعك إلى ركبتَيْك أجزأك ذلك ، وأحبُّ إليَّ أن تمكِّنَ كفَّيْك من ركبتَيْك ... ) ، فإنَّها صريحة في الاجتزاء بمجرد وصول أطراف الأصابع إلى الرُّكبة ، وهذه قرينة أخرى على حمل الأمر في صحيحة زرارة الأُولى ، وفي صحيحة حمَّاد ، على الاستحباب .
مضافاً إلى ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من أنَّ صحيحة حمَّاد الحاكية لفعل الصَّادق عليه السلام واردة في مقام بيان الأولى والمستحبَّات .
وقد يستدلّ لهذا القول أيضاً برواية عمَّار عن أبي عبد الله عليه السلام (عن الرَّجل ينسى القنوت في الوتر ، أو غير الوتر ، فقال : ليس عليه شيء ، وقال : إنْ ذَكَره وقد أهوى إلى الرُّكوع ، قبل أن يضع يديه على الركبتين ، فَلْيرجع قائماً ، وَلْيقنت ثمَّ ليركع ، وإن وضع يده على الركبتين فلميضِ في صلاته ، وليس عليه شيء) [15] ، وهي دالَّة على أنَّه يرجع ما لم يدخل في الرُّكوع ، ومتى دخل في الرُّكوع يمضي ولا يرجع .
ومحلّ الشَّاهد قوله (قبل أن يضع يديه على الرُّكبتين) ، فإن المتبادر منه إرادة وضع اليدين على الرُّكبتين على النحو المتعارف المعهود في الصَّلاة ، وهو لا ينفكّ غالباً عن بلوغ الرَّاحتين ، فتدلّ الرّواية بالالتزام على عدم تحقُّق الرُّكوع ما لم ينحنِ بهذا المقدار .
وفيها أوَّلاً : أنَّها ضعيفة لِعدم وثاقة عليّ بن خالد ، فالتعبير عنها بالموثَّقة في غير محلِّه .
وثانياً : أنَّها ظاهرة في أنَّ المناط في تحقُّق الرُّكوع وضع اليدين على الرُّكبتين فعلاً لا تقديراً .