< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

40/06/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: أحكام الخلل(13)

أمَّا الأمر الأوَّل: فالمعروف بين الأعلام أنَّ المرجع في مفهوم الكثرة إلى العرف.

وفي الحدائق: ©فظاهر المشهور بين المتأخرين ومتأخريهم هو إرجاع ذلك إلى العرف، ذهب إليه الفاضلان والشهيدان، ومن بعدهم...®.

وقال الشَّيخ رحمه الله في المبسوط: (قيل: حدُّه أنْ يسهو ثلاث مرات متوالية...)، وقال ابن حمزة رحمه الله: (لا حكم له إذا سها ثلاث مرات متواليات...)، وقال ابن إدريس: (وحدُّه أن يسهو في شيء واحد، أو فريضة واحدة، ثلاث مرات، فيسقط بعد ذلك حكمه، أو يسهو في أكثر الخمس فرائض -أعني ثلاث صلوات من الخمس- كلٌّ منهنَّ قام إليها فسها فيها، فيسقط بعد ذلك حكم السَّهو، ولا يلتفت إلى سهوه في الفريضة الرَّابعة...).

قال صاحب المدارك رحمه الله -بعد أنْ ذكَر عبارة ابن إدريس رحمه الله- (وأنكر المصنِّف في المعتبر هذا القول، وقال: إنَّه يجب أن يطالب هذا القائل بمأخذ دعواه، فإنَّا لا نعلم لذلك أصلاً في لغة ولا شرع، والدَّعوى من غير دلالة تحكُّم، والأصح: ما اختاره المصنِّف من الرُّجوع في ذلك إلى العادة؛ لأنَّها المحكَّمة فيما لم يرد فيه تقدير من الشَّارع...).

وقال المحقِّق رحمه الله في الشَّرائع: (ويرجع في الكثرة إلى ما يسمَّى في العادة كثيراً، وقيل: أنْ يسهو ثلاثاً في فريضة، وقيل: أنْ يسهو مرةً في ثلاث فرائض...).

أقول: ذكرنا في أكثر من مرَّة، وفي عدَّة مناسبات، أنَّ الألفاظ التي تذكر في الأدلَّة الشَّرعيَّة تُحْمل على المعاني العرفيَّة إذا لم يرد تحديد شرعي فيها، وذكرنا أيضاً أنَّ المعنى العرفيّ يُقدَّم على المعنى اللغوي في حال التعارض؛ لأنَّ الأدلَّة تنصرف إلى ما يفهم منها عرفاً.

وعليه، فكلُّ ما يراه العرف كثيراً يترتَّب عليه حكم كثير الشَّكّ، ولا ينحصر ذلك في مصداق واحد.

إن قلتُ: ورد من الشَّارع المقدس تحديد للكثرة، في صحيح محمَّد بن أبي حمزة (أَنَّ الصَّادِقَ عليه السلام، قَالَ‌: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَسْهُو فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، فَهُوَ مِمَّنْ كَثُرَ عَلَيْهِ السَّهْوُ)(1).

والمراد من محمَّد هو محمَّد بن أبي حمزة بن ثابت، وهو ثقة، وليس المراد من لفظه كلّ الدوام، أي الاستمرار إلى آخر عمره، وإلَّا لم يتحقَّق الحكم بالكثرة إلَّا بعد موته.

والمراد: هو أن يسهو في كلِّ ثلاث صلوات متواليات سهواً واحداً، ولا تكون ثلاث صلوات متواليات خاليةً من السَّهو، كأنْ يسهو مثلاً في الصبح، ثمَّ في المغرب، ثمَّ في الظُّهر في اليوم الثاني، وهكذا؛ وهذا المعنى هو الأقرب من محتملات معنى الصَّحيحة.

ويحتمل فيها أيضاً: أن يكون المراد الشَّكّ في جميع الثلاث.

لكنَّ الأقرب: هو المحتمل الأوَّل.

ومع ذلك، لا تدلُّ الصَّحيحة على حصر الكثرة بذلك، بل ما ذكرته هو من مصاديق الكثرة.

وذلك لِقوله عليه السلام في الصَّحيحة: (فهو ممن...)، ولفظة (من) للتبعيض، فهي كالصَّريحة في وجود فرد آخر للكثرة.

والخلاصة: أنَّ أقصى ما تدلُّ عليه الصَّحيحة هو تحقُّق الكثرة بما تضمنته، وهو مطابق للعرف، ولكن لا تدلُّ على حصر الكثرة بذلك.

قال المصنِّف رحمه الله في الذِّكرى: (وفي حسنة ابن البختري -وستأتي-: ليس على الإعادة إعادة؛ وهذا يظهر منه أنَّ السَّهو يكثر بالثانية، إلَّا أن يُقال: يختص بموضع وجوب الإعادة).

قال صاحب المدارك رحمه الله -بعد نقل ذلك عنه-: (وهو كذلك، إلَّا أنِّي لا أعلم بضمونها قائلاً).

وفي الحدائق: (أنَّ الأظهر في معنى هذه العبارة: هو أنَّه لو صدر منه شكّ أو سهو موجب لإعادة الصَّلاة، ثمَّ حصل في الصَّلاة المعادة ما يوجب الإعادة أيضاً، فإنَّه لا يُعِيد ولا يلتفت اليه، بل يتمُّ صلاته، و لا منافاة بينه وبين التحديد الواقع في صحيحة محمَّد بن أبى عمير، إذ لا يلزم أن يكون عدم الإعادة في الصَّلاة المعادة إنَّما هو لحصول الكثرة، بل هما حكمان شرعيَّان، بينهما عموم وخصوص من وجه).

أقول: ما ذكره صاحب الحدائق رحمه الله من عدم لزوم كون الإعادة بسبب حصول الكثرة هو في محلِّه.

إلَّا أنَّ المصنِّف رحمه الله لمَّا رأى عدم إمكان الأخذ بظاهر الحسنة، بعد عدم معروفيَّة الفتوى به من الأعلام، وجَّهه بالحَمْل على كثير السَّهو، واستظهر حصول الكثرة بالثانية.

والإنصاف: هو ردُّ هذا المقطع من الحسنة إلى أهله، وهم عليهم السلام أدرى به.

وأمَّا الأمر الثاني: فالمعروف بين الأعلام أنَّه لا حكم للشَّكِّ مع كثرته.

وفي الجواهر: (بل لا أجد فيه خلافاً، كما اعترف به في الحدائق والرِّياض...).

والمراد من عدم الحكم للشَّك مع الكثرة: هو البناء على وقوع المشكوك فيه، وعدم الالتفات للشَّكِّ، من غير فرق بين أن يكون الشَّكُّ في الأفعال أو الركعات، ولا بين الشَّك المفسِد -كما لو شكَّ بين الأُولى والثانية- وغيره -كما في الشُّكوك الصَّحيحة، مثل ما لو شكَّ بين الثالثة والرَّابعة ونحوها-.

وبالجملة، فإنَّه يبني على وقوع المشكوك فيه، إلَّا إذا أدَّى ذلك إلى الفساد فيبني على عدم وقوعه، كأنْ يشكَّ كثيراً في الأربع والخمس، فيبني على عدم وقوع الخَمْس، وكأنْ يشكَّ كثيراً في زيادة الرُّكوع، كما لو شكَّ أنَّه ركع ركوعين أم واحداً، فإنَّه يبني على عدم الزِّيادة، أي على الأقلِّ، وهكذا؛ وذلك تخفيفاً على المكلَّف، ورغماً لأَنْفِ الشَّيطان.

والخلاصة: أنَّ المكلَّف مأمور بالأخذ بالاحتمال المصحِّح للصَّلاة، فإنْ كان المشكوك فيه محتاجاً إليه فيبني على وقوعه، وإن كان مُفسِداً فيبني على عدمه.

_____________

(1) الوسائل باب16 من أبواب الخلل الواقع في الصَّلاة ح7.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo