< قائمة الدروس

بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

44/07/07

بسم الله الرحمن الرحیم

موضوع: ثمرات النزاع حول تقابل الإطلاق والتقييد الثبوتيّين

 

كان الكلام في الثمرات المترتبة على اختلاف المباني في تقابل الإطلاق والتقييد الثبوتيين.

ذكرنا الثمرة الأولى التي ادُّعيت أنها تترتب بناءً على كون التقابل الإطلاق والتقييد تقابل التضاد حيث ذكر بعض المعاصرين أنّه إذا امتنع التقييد فلا يجب الإطلاق وإن ادّعى السيد الخوئي رحمه الله أنّه إذا امتنع التقييد وجب الإطلاق؛ وذلك لأنّ الإطلاق بنظر السيد الخوئي رحمه الله يتقوّم بلحاظ السريان، فإذا رأى الشارع أنّ غرضه مختصٌّ بحصّةٍ من الطبيعة فلا موجب لأن يلحظ سريان الطبيعة في أفرادها، تكون نتيجة ذلك الإهمال الثبوتي.

فأجبنا عن ذلك، ولكن قد يخطر ببال الإنسان أنّه لا يوجد مانعٌ من الإهمال الثبوتي على جميع المباني، فيقال: بأنّنا نرى في مجلس النواب يصوتون على قانونٍ عامٍّ مع أنّهم بانين على إلحاق مقيّدات يسمّونها بالـ تبصرة، مثلاً: يصوتون أنّ طلبة العلم إذا وصلوا إلى مستوى الخارج مثلاً يجوز تعيينهم للقضاء، يصوّتون عليه، ثمّ في وقتٍ لاحق يذكرون الضوابط: أن لا يكون مستواه العلمي أقل من كذا، أو يكون –مثلاً- عادلاً، وهكذا... ففي الوقت الذي صوتوا بأنّ طلبة العلم يجوز استخدامهم وتعيينهم لمنصب القضاء هل هذا مطلق ثبوتاً ثم ينسخون هذا الإطلاق بالمقيدات التي تلحق هذا الإطلاق في وقتٍ متأخر؟ هذا خلاف الواقع، بل يقال بأنّ ذلك القانون الذي صُوّت عليه في اليوم الأول كان قانوناً مهملاً حتى في مقام الثبوت، لم يُلحظ كونه تمام الموضوع، أو فقل لم يُلحظ سريانه وإطلاقه، فلماذا صار المشهور عند الأعلام كالسيد الخوئي رحمه الله أنّ الإهمال الثبوتي غير معقول؟ وهكذا صاحب البحوث رحمه الله، يقول: إذا جُعل الحكم على ماهيّةٍ مهملةٍ فهذا في قوّة القضيّة المطلقة، هذا هو الإطلاق الثبوتي.

فهذه الشبهة أي شبهة إمكان الإهمال الثبوتي في الجعل حيث نراه في القوانين التي يُصوّت عليها في مجالس النواب أو نفرض سلطاناً يتولّى كلّ شيء وأزمّة الأمور طُرّاً بيده، هو يخاطب الشعب أو يخاطب السلطة، يقول: الذين تخرّجوا في كليّة القانون يجوز تعيينهم لمنصب القضاء ولكن لا يعلنون ذلك، لا يصل إلى دور التنفيذ، ينتهي مجلس ذلك اليوم لأنّ السلطان تعب، ثمّ في اليوم التالي أو في وقتٍ آخر يجتمعون والسلطان يكمّل ذلك القانون الذي هو قرّره ويقول: ويشترط ويعتبر في الذي يتعيّن لمنصب القضاء إضافةً إلى كونه خِرّيج كليّة القانون أن لا يكون له ملف أمني، أو ثبّت ولائه لنا –مثلاً-، هو لم ينسخ ما قرّره أولاً وإنّما جعل قانوناً مهملا بلحاظ الخصوصيات ثمّ عيّن الخصوصيات في وقتٍ لاحق، فلماذ يُقال: الإهمال الثبوتي غير معقول؟

الإنصاف: أنّ هذا الذي نتوهّم أنّه قانونٌ مهمل ليس مهملاً بالحمل الشائع؛ فإما أن يكون له مقيّداً لُبيّ وهو من كان واجداً للضوابط التي تُعيّن في وقتٍ لاحق، لا يحتاج إلى التقييد اللفظي، هذا يكون كمقيّد لُبّي مرتكز في ذهن النواب أو ذاك السلطان وإمّا أنّ هذا تمهيدٌ للقانون –مسودة- وليس قانوناً، تمهيد بالفارسية يعبّرون عنه "پيش نويس"، أو يُقال: هذا القانون مطلقٌ من حيث الجعل ولكنه من حيث أنّه لا يكشف عن غرض المقنن ولا يكشف عن ملاكٍ في مطلق العنوان -أي طلبة العلم أو الخريج في كليّة القانون- فهذا بلحاظ الجعل مطلق ولكنّ المهم للعقلاء هو كشف هذا القانون المطلق عن الغرض المطلق، وحيث يتوقّع حتى نفس المقننين أن يلحق ذلك الجعل المطلق ملحقات ومقيدات فلا يكشف ذلك الجعل المطلق عن الغرض المطلق، وإلا نحن لا نتصور الإهمال الثبوتي، أيّ معنىً للإهمال الثبوتي، الواقع مساوقٌ للتعيّن واللا تعيّن يساوق العدم، فالإهمال الثبوتي ممّا لا نتعقله.

فإذاً لا اختلاف في المسالك والمباني في تقابل الإطلاق والتقييد في امتناع الإهمال الثبوتي بمعنى الإهمال الثبوتي في نفس الجعل وإن كان هذا الجعل قد لا يكشف عن سعة الغرض وإطلاق الغرض.


[الكلام في الثمرة الثانية]

الثمرة الثانية: ما قد يُقال: من أنّه بناءً على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب فعند الشك في الإطلاق والتقييد يمكن التمسّك باستصحاب عدم التقييد لإثبات الإطلاق، وبذلك تنحلّ مشكلةٌ عويصة في عالم الفقه وعالم الأصول، وهو:

أنّه إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر في متعلّق التكليف فالبراءة عن الأكثر تؤمننا من العقاب على ترك الأكثر وإن لم يثبت أنّ الأمر متعلّقٌ بالأقلّ لا بشرط؛ فإنّه كما ذكر في البحوث: البراءة عن الأكثر لا تثبت إطلاق الأقل وأنّه متعلّقٌ للأمر لا بشرط من الأكثر، ولكن هذا ليس مهمّاً؛ لأنّ المهم أن يكون الإنسان معذوراً في تركه للأكثر. ولكن إذا كان موضوع الحكم مردّداً بين الأقلّ والأكثر فالموضع للحكم انحلاليٌّ، يعني: مثلاً لا ندري هل العقد العربي سببٌ للزوجيّة أو مطلق العقد سببٌ للزوجيّة؟ فنعلم بأنّ العقد العربي سبب للزوجيّة بلا إشكال ولكن نشكّ في أنّ العقد الفارسي سبب للزوجيّة أم لا؟

الشيخ الأنصاري رحمه الله: كان يجري البراءة عن الشرطيّة، ولكن أشكلوا عليه: بأنّه لا معنى لهذه البراءة؛ نحن نشكّ في ثبوت الزوجيّة عقيب العقد الفارسي والاستصحاب يقول: لم يترتب أثر الزوجيّة على العقد الفارسي، فلا دور للبراءة عن شرطيّة العربية هنا بل يجري استصحاب عدم ترتب الأثر عقيب العقد الفارسي، وهذا إشكالٌ تام، لكن هنا قد تعوّض أصالة عدم التقييد عن أصالة البراءة عن التقييد، استصحاب عدم التقييد يكون بدل وعوض عن البراءة عن التقييد، البراءة عن التقييد لم تثبت الإطلاق لكن استصحاب عدم التقييد يمكنه أن يثبت الإطلاق بناءً على ما هو الصحيح من كون الإطلاق هو نفس عدم التقييد لا أنّه أمرٌ وجوديٌّ مضادٌ للتقييد، فماذا نصنع؟ إن لم يمكننا أن نثبت الإطلاق فكيف نرتب الأثر على الأقل الفاقد للقيد المشكوك؟ كيف –مثلاً- نجري البراءة عن الشرطيّة للشرط المشكوك في الصلاة أو البراءة عن الجزئية للجزء المشكوك في الصلاة ثم نسافر إلى مكانٍ وننوي إقامة عشرة أيام ونصلي صلاةً رباعيّة نكتفي فيها بالأقل، نجري البراءة عن الشرط المشكوك، عن الجزء المشكوك، ونصلي ثمّ بعد الصلاة نعدل عن نيّة الإقامة؟

المشهور قالوا: بأنّك يجب عليك أن تتمّ صلاتك، لكن هنا تُطرح هذه الشبهة: أنّ موضوع البناء على التمام هو الإتيان بالرباعيّة الصحيحة وهذا مشكوك، الرباعيّة الصحيحة يعني الصلاة التامّة التي تكون امتثالاً للأمر، البراءة عن الأكثر لا تُثبت أنّ هذه الصلاة الفاقدة للشرط أو الجزء المشكوكين امتثالٌ للأمر؛ لأنّ البراءة عن الأكثر لم تُثبت أنّ الأقلّ لا بشرط متعلَّقٌ للأمر.

لا تقولوا: الموضوع لهذه الأحكام العمل الصحيح الأعم من الظاهريّ والواقعي، فالصلاة صحيحة ظاهراً ولو بنكتة جريان البراءة موضوعٌ للبناء على التمام.

هذا غير صحيح؛ فأنا لو بنيت على صحّة صلاتي بمقتضى حكمٍ ظاهري وأتممت صلاتي بعد العدول عن نيّة الإقامة ثم انكشف لي أنّ تلك الصلاة كانت فاسدةً، هل تقولون بأنّه كان يجب علي التمام واقعاً؟ الظاهر أنّ موضوع وجوب التمام هو الصلاة الصحيحة الواقعيّة كما عليه السيد الخوئي، كما أنّ موضوع جواز الدخول في المسجد الغسل الصحيح من الجنابة واقعاً لا الغسل الصحيح الأعم من الصحيح الواقعي أو الظاهري، هذا خلاف الظاهر. فهل يمكن استصحاب عدم التقييد لإثبات إطلاق الأمر وأنّ موضوع جواز الدخول في المسجد هو الغسل المطلق أي الغسل لا بشرط من الترتيب بين اليمين واليسار وهكذا؟

قد يُقال: لماذا لا يثبت الإطلاق باستصحاب عدم التقييد بعد أن كان الإطلاق نفس عدم التقييد لا لازماً عقلياً له؟

إن قلتم: في الأحكام الشموليّة في عالم الثبوت توجد جُعولٌ متعدّدة بعدد أفراد الموضوع، مثلاً: العقد الزواجي سببٌ للزوجيّة، فكلّ فردٍ من أفراد الزواج جُعل له زوجيّةٌ، هذا هو واقع ثبوت الجعل الشمولي، ليس الجعل بدليّاً حتى يثبت باستصحاب عدم التقييد إطلاق الجعل البدلي، الجعل شموليٌّ وواقع الجعل الشمولي انحلاليٌّ، ونحن نشكّ في جعل الزوجية عقيب العقد الفارسي أو نشكّ في جعل جواز الدخول في المسجد عقيب الغسل الفاقد للترتيب بين اليمين واليسار.

فيُجاب عن ذلك: الذي لا يرى الانحلال في الجعل كصاحب البحوث هو مرتاح من هذا الإشكال؛ صاحب البحوث وهكذا السيد الخميني ‚، بنظرهما أصلاً لا يوجد أيّ انحلالٌ في الجعل، الجعل واحد، الله واحد الجعل واحد. فُجعلت الزوجيّة كجعلٍ واحد لعقد النكاح، نستصحب عدم تقييده بالعربيّة، فأحرزنا بضمّ الوجدان إلى الأصل جعل الشارع، فكأنّه قامت أمارةٌ شرعيّة على أنّ جعل الزوجيّةِ ثبت لعقدِ النكاح بلا تقييدٍ بكونه عربياً، كما ثبت جواز الدخول في المسجد عند تحقق غسل الجنابة بدون تقييده برعاية الترتييب بين جانب اليمين واليسار، وحينئذٍ يتعمّق الإشكال على مثل صاحب البحوث والسيد الخميني ‚ حيث صرّحا أنّ استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق، استصحاب عدم تقييد عقد النكاح بالعربيّة لا يثبت أنّ عقد النكاح لا بشرط من العربية موضوعٌ لسببيّة الزوجيّة، صرّحا بذلك، فيقال: هذا يتنافي مع مبانيكم؛ تقولون: بأنّ الإطلاق عدم التقييد، وتقولون: بأنّ الإطلاق الشمولي في مقام الثبوت لا يعني الإنحلال في الجعل بل هناك جعلٌ واحد، هذا الجعل الواحد ثبت على موضوع عقد النكاح من دون تقييده بالعربيّة ثبت بمقتضى الاستصحاب وثبوت الجعل لعقد النكاح ثبت بالوجدان، فبضم الوجدان إلى الأصل نثبت موضوع الجعل، فلماذا لا يمكننا أن نحكم بأنّ العقد الفارسي صحيح؟ هذا تعميقٌ لهذا الإشكال المتوجه على جمعٍ من الأعلام كالسيد الخميني والسيد الصدر ‚، هل يوجد جوابٌ لهذه الشبهة أم لا؟ نتكلم عنه في الليلة القادمة إن شاء الله.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo