< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

32/11/06

بسم الله الرحمن الرحیم

     4- الوجه الرَّابع: هو الاستظهار من أدلّة الأمر الاِضْطِرَارِيّ الوارد بلسان جعل البدل؛ لأَنَّ الأوامر الاِضْطِرَارِيّة ليست عَلَىٰ نمط واحد، وسوف نذكر فِي الختام ملخصاً عن أنواع الأوامر الاِضْطِرَارِيّة، ومن تلك الأنواع ما إذا ورد الأمر الاِضْطِرَارِيّ بلسان تنزيل البدل وجعله، مثل باب التَّيَمُّم حيث يكون المُكَلَّف مضطراً لا يمكنه الإتيان بالوضوء أو الغُسل، فهنا يأتي الأمر الاِضْطِرَارِيّ ويتعلق بالتيمم حيث قال الشَّارع: {فتيمموا صعيدا طيباً}([1] ) وقد وردت فِي القرآن الكريم وكذلك فِي الروايات أن: >التُّرَاب أحد الطهورين< و>يكفيك الصعيد عشر سنين<. فهذا النَّوْع من الأوامر الاِضْطِرَارِيّة الواردة بلسان جعل البدل لِلشَّرْطِ أو لجزء الواجب المتعذر، ظاهرٌ فِي الإجزاء. أي: نستفيد من دليل جعل الْبَدَلِيَّة إجزاء الأمرَ بالبدل من الأمر بالمبدل، ويمكن ذكر تقريبين لهذا الوجه الرَّابع:

     التَّقريب الأوّل: أن لسان الْبَدَلِيَّة هو لسان الحكومة وتوسّع الأمر بالمبدل إلى البدل أَيْضاً، وهو نظير أن يقول: إن المأمور به أعمّ من المبدل (الوضوء أو الغُسل فِي الاختيار) والبدل (التَّيَمُّم) فِي حال الاضطرار، وهذا فِي الواقع يُثبت الإجزاء بالملاك الأوّل، أي: يثبت أن الفريضة قد تعلّق أوَّلاً بالجامع بين المبدل فِي فرض الاختيار وبين البدل فِي فرض الاضطرار (ولو كان فِي خصوص الاضطرار لا بسوء الاختيار) وهذا يوجب الإجزاء وتحقّق امتثال الأمر بالفريضة، وحيث أَنَّهُ بلسان النَّظَر إلى المبدل والتوسع فيه يكون حاكماً عَلَىٰ إطلاق دليل الأمر الاِخْتِيَارِيّ.

     التَّقريب الثَّانِي: أن نسلم بأَنَّ التوسعة لا تستفاد من دليل الأمر بالبدل، ولكن مقتضى الْبَدَلِيَّة هو تنزيل البدل منزلة المبدل، ومقتضى الإِطْلاَق هو تنزيله فِي تمام الآثار والمراتب، بِأَنْ يَّكُونَ البدل نازلاً منزلة المبدل فِي الملاكات والمبادئ، فضلاً عن كونه مَأْمُوراً به. أي: كما أن المبدل يُوجِد المصلحة والملاك للفريضة فكذلك البدل يحتوي عَلَىٰ جميع تلك المراتب والملاكات. فَيَكُونُ التَّيَمُّم كالوضوء فِي جميع تلك المراتب والملاكات، فضلاً عن كونه مأموراً به. وهذا الإِطْلاَق يُسمى بإطلاق التنزيل أو التنزيل فِي جميع المراتب والمراحل.

وهذا يثبت الإجزاء بالملاك الثَّانِي. أي: يثبت أن الوظيفة الاِضْطِرَارِيّة تحتوي عَلَىٰ تمام الغرض الموجود في الوظيفة الاِخْتِيَارِيّة.

     دراسة الوجه الرَّابع: هذا الوجه صحيح فِي نفسه ولا يمكن إنكار هذا الظُّهُور بهذين التقريبين، ولكن لا يمكن استفادة الأوامر الاِضْطِرَارِيّة فِي جميع الموارد، ويحتاج إلى الأمر بالبدل، وذلك بالظهور فِي التنزيل وإطلاق التنزيل أو التوسع فِي المبدل، وهو غير متوفر فِي جميع الموارد. فعلى سبيل المثال لا يوجد هكذا ظهور فِي مثل الأوامر الاِضْطِرَارِيّة الَّتي تثبت بدليل >لا حرج< و>لا ضرر< وأمثالهما، مثل الصَّلاة عن جلوس فِي حال العجز عن القيام، أو سقوط شرْطِيَّة الطمأنينة فِي الصَّلاة للمضطر وأمثالهما، ولعلّ أكثر الوظائف الاِضْطِرَارِيّة من هذا القبيل.

وقد توجهت إلى هذا التَّقريب ملاحظتان ندرسهما تباعاً:

     الملاحظة الأولى: ما أوردها سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & وأجاب عنها، وحاصلها أَنَّ ظهور الأمر بالبدل فِي الوفاء بتمام ملاك المبدل أو التوسع فيه وإن كان مستفاداً من دليل الأمر الاِضْطِرَارِيّ، ولكن هذا الظُّهُور متفرع عَلَىٰ إطلاق دليل الأمر الاِضْطِرَارِيّ بالبدل وَالَّذِي يثبت بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ؛ لأَنَّ دليل الأمر الاِضْطِرَارِيّ لم يرد فِي خصوص المُكَلَّف المضطر فِي أوَّل الوقت وَالَّذِي يرتفع عذره داخل الوقت، بل ورد فِي مطلق المضطر، فَيَكُونُ قدره المتيقن هو المضطر فِي تمام الوقت، وبالإطلاق يشمل من ارتفع عذره فِي داخل الوقت. أي: ذاك الظُّهُور فِي التنزيل فِي طول إطلاق مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ، وهذا الإِطْلاَق يعارض إطلاقَ الأمر الاِخْتِيَارِيّ أثناءَ الوقت، حيث يقول: تجب الصَّلاة متوضئاً - بالوجوب الْعَيْنِيّ - عَلَىٰ كل قادرٍ عَلَىٰ الصَّلاة متوضئاً وإن كان قد صَلَّىٰ متيمماً، ويمكن التَّمسُّك بهذا الإِطْلاَق ونسقط إطلاق الأمر الاِضْطِرَارِيّ، لا أن نهدم ظهوره فِي الْبَدَلِيَّة. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِن النَّتِيجَة تابعة لأخسّ المقدمتين. إذن، فبما أن الظُّهُور فِي الْبَدَلِيَّة فِي طول الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة، فهذا الإِطْلاَق فِي الأمر الاِضْطِرَارِيّ مماثل للإطلاق فِي الأمر الاِخْتِيَارِيّ وبإمكان كل منهما أن يقيِّد الآخَر، ويتعارض هذان الإطلاقان ويتساقطان.

     وقد أجاب عنها سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & بأنه قد ثبت فِي تعارض الأَدِلَّة أن إطلاق الدَّلِيل الحاكم والناظر مقدَّم عَلَىٰ إطلاق دليل المحكوم؛ لأَنَّ النُّكتة فِي التقديم إِنَّمَا هو الْقَرِينِيَّة الشخصيّة، لا قوّة الدِّلاَلَة حتّى يقال: هذان الإطلاقان مماثلان وفي قوة واحدة، فيتساقطان.

     الملاحظة الثَّانية: ما أوردها المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ حيث ورد فِي عباراته إشكالان يمكن إرجاعهما إلى ثلاثة إِشْكَالاَت أو ثلاثة تعابير:

     التَّعْبِير الأوّل: أن نقول بأَنَّهُ كما يُثبت ظهورُ الأمر الاِضْطِرَارِيّ فِي الْبَدَلِيَّةِ أن تمام مراتب المبدل والملاكات متوفر فِي البدل، فكذلك يثبت دليل الأمر الاِخْتِيَارِيّ وظهوره فِي أخذ المبدل والقيد أن تلك الملاكات مقيدة بتحقّق المبدل والقيد من كُلّ مَن يكون قادراً عَلَيه ولطالما لم يقم به لا تحصل الملاكات. إذن، كما أن إِطْلاَق التنزيل فِي الأمر بالبدل يثبت تحقّق ملاك المبدل، فكذلك يثبت أخذ المبدل كقيد فِي مُتَعَلَّق الأمر بالمبدل أن الملاك يتحقّق بخصوص المبدل لا بشيء آخر.

     وإن الجواب عن الإشكال بهذا التَّعْبِير واضح؛ لصحة أصل هذه الدِّلاَلَة فِي الأمر بالمبدل، هو الَّذِي يوجب التعارض مع دليل الأمر بالبدل وهو الواقع موقع القبول فِي هذا الوجه الرَّابع، ولكن يقال: حيث أن دليل الأمر بالبدل ناظر إلى الأمر بالمبدل، يَكُونُ حاكماً عَلَىٰ دليل الأمر بالمبدل ومقدَّماً عليه.

     التَّعْبِير الثَّانِي: ما يقوله من أن دلالة الأمر بالمبدل عَلَىٰ اشتراط خصوص المبدل مثل الوضوء فِي الغرض، دلالةٌ وضعيَّة وإثباتية. أي: أَنَّنَا نفهم من أخذ القيد فِي لسان الأمر بالمبدل والوظيفة الاِخْتِيَارِيّة أن ذاك القيد دخيل فِي المأمور به وفي الغرض منه، وأخذ القيد فِي مُتَعَلَّق الأمر ظهورٌ إِثْبَاتِيّ وليس إطلاقيّاً وَبِمُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ، والظهور الإِثْبَاتِيّ أقوى من الظُّهُور الإطلاقي. إذن، يُقدّم ظهور الدَّلِيل الاِخْتِيَارِيّ فِي عدم الإجزاء وعدم تحقّق الملاك عَلَىٰ إطلاق دليل الأمر الاِضْطِرَارِيّ.

     والجواب عنه أوَّلاً: أن دلالة الأمر الاِخْتِيَارِيّ بالمبدل هنا فِي طول الإِطْلاَق، وقد تقدّم منّا أن إطلاق الدَّلِيل الحاكم مقدّمٌ عَلَىٰ إطلاق دليل المحكوم.

     وثانياً: أن تقدّم الدَّلِيل الحاكم عَلَىٰ دليل المحكوم لَيْسَ من باب قوّة الدِّلاَلَة والأظهرية حتّى يقال إن ظهور أخذ القيد فِي الملاك إِثْبَاتِيّ وأقوى من الإِطْلاَق، بل هو من باب القرينية الشخصية والناظرية التي تستوجب تقدّم الدَّلِيل النَّاظِر عَلَىٰ الدَّلِيل المنظور إليه، رغم كونها إطلاقيّةً؛ فإِنَّ إطلاقات دليل القرينة أَيْضاً قرينة، وسيأتي تفصيل هذا البحث فِي التعارض غير المستقر إن شاء اللٰه تعالى.

     التَّعْبِير الثَّالث: وهو بيان غريب منه حيث أفاد أن دليل الأمر الاِخْتِيَارِيّ هنا حاكم عَلَىٰ الأمر الاِضْطِرَارِيّ أيضاً، ومن هنا لا يُقدَّم أحدهما عَلَىٰ الآخر؛ ؛ لأَنَّهُ يقال فِي بحث حكومةِ دليلٍ عَلَىٰ دليل آخر: إن لها أنواع، ومن جملتها الحكومةُ بلسان الحكومة والنظر، بأن يقوم دليل بافتراض دليل آخر ويتناول تفسيره أو تقييده، كنظر أدلّة نفي الأحكام الحرجيّة أو الضررية فِي مثل { ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ}([2] ) إلى أدلة الأحكام الأَوَّلِيَّةِ، وهو ما يوجب الحكومة عليها ويقيّدها فِي الموارد الَّتي توجد فيها العسر والحرج ويرفعها. ومثل: >لا رباً بين الوالد والولد< و>الطَّوَاف بالبيتِ صلاةٌ< الَّذي ينفي الحكم أو يثبته بلسان النَّفْي التَّعبُّديّ للموضوع أو إثبات الْمَوْضُوع تَعَبُّداً، وهذا اللسان أيضاً لسان للحكومة وَالتَّفْسِير والْقَرِينِيَّة الشخصيّة.

يقول الْعِرَاقِيّ &: إذا كان دليل الأمر بالبدل نَاظِراً إلى دليل المبدل وحاكماً من هذه الجهة، فكذلك دليل الأمر بالمبدل يَدُلّ عَلَىٰ أن خصوص المبدل دخيل فِي الملاك والحكم للقادر عليه ولو فِي بعض الوقت، حيثُ أَنَّ القادر عَلَىٰ المبدل لا يمكنه أن يورط نفسه فِي الاضطرار ومن هنا لا يجوز الإلقاء فِي الاضطرار. فالأمر بالمبدل يقتضي حفظ القدرة عَلَىٰ المبدل ورفعَ الاضطرار، حَيْث أَنَّ الاضطرار مَوْضُوع للأمر الاِضْطِرَارِيّ بالمبدل، فَيَكُونُ من هذه الجهة حاكماً عليه.

والجواب عنه واضح جِدّاً؛ لأَنَّ الحكومة بلسان رفع الْمَوْضُوع إِنَّمَا هو فيما إذا كان أحد الدَّلِيلَيْنِ ينفي مَوْضُوع الآخر تَعَبُّداً، لا أن ينهى عنه. وما ورد فِي كلامه - بناء عَلَىٰ قبوله - هو أن دليل الأمر بالمبدل يمنع وينهى عن الإيقاع فِي الاضطرار، لا أَنَّهُ يقول: إن الاضطرار لم يتشكل تَعَبُّداً، بل عَلَىٰ عكس النَّهْي والمنع عن الفعل يَدُلّ عَلَىٰ تحقّق ذاك الفعل. فما يكون لساناً للحكومة هو النفي التَّعَبُّدِيّ لا النهي والمنع. وهذا خلط عجيب ورد فِي كلامه.

ولقائل أن يقول: إن مقصود الْعِرَاقِيّ & من المنع وَالنَّهْي عن الاضطرار هو أن يكون دليل الأمر الاِخْتِيَارِيّ بالمبدل أيضاً نَاظِراً إلى دليل الأمر الاِضْطِرَارِيّ، لأجل أن ينهى من الإيقاع فِي الاضطرار. وهذا يَدُلّ عَلَىٰ أن الفعل الاِضْطِرَارِيّ والبدل لَيْسَ وافياً بتمام الملاك من المبدل، ومن هنا لا يجوز الإلقاء فِي الاضطرار. إذن، دليل الأمر بالمبدل أيضاً ناظر إلى الأمر الاِضْطِرَارِيّ بالبدل، وينفي تحقّق تمام الملاك بواسطته.

ولكن الجواب عنه واضح أيضاً؛ لأَنَّهُ إن ثبتت فِي مورد دلالةُ الأمر بالمبدل عَلَىٰ عدم جواز الإيقاع فِي الاضطرار والإلقاء فِي العجز، فإِنَّهُ لَيْسَ بمعنى نظر الأمر بالمبدل إلى دليل الأمر بالبدل، بل هو بمعنى كفاية صرف وجود القدرة ومنجزيّته، وأن الاضطرار بسوء الاختيار لَيْسَ رَافِعاً للملاك وَالْمُنَجَّزِيَّة، بل هو عصيان للأمر. وهذا لا يَسْتَلْزِم النَّظَر إلى حكم الاضطرار والأمر بالتيمم أبداً، وإنَّما يقوم بتنجيز ملاك المبدل فقط ويقول بأَنَّهُ عصيان للأمر. ويلزم منه التفويتُ القهري لتمام ملاك المبدل أو بعضه فِي الإيقاع المتعمد فِي الاضطرار بسوء الاختيار، ولكن هذا لَيْسَ من النَّظَر إلى حكم التَّيَمُّم والأمر الاِضْطِرَارِيّ كما أَنَّهُ لَيْسَ جارياً فِي موارد الاضطرار مِنْ دُونِ سوء الاختيار.

ففي ضوء هذا تَبَيَّنَ أَنَّ الأمر بالبدل هو الوحيد النَّاظِر إلى دليل الأمر بالمبدل، بالنحو المتقدّم فِي الصُّورَة الرَّابعة، ولا يرد عليه شيء من الإشكالات المذكورة.


[1] - .سورة النساء (4): الآية 64 وسورة المائدة (5): الآية 6
[2] - .سورة الحج (22): الآية 78

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo