< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

33/01/28

بسم الله الرحمن الرحیم

مُقَدِّمَة الواجب

نكات تمهيدية:

قبل أن البدء فِي بحث مُقَدَِّمَة الواجب نرى من الضروري دراسة نقاط تمهيدية:

     النقطة الأولى: ما المقصود من وجوب الْمُقَدَِّمَة؟

لَيْسَ المقصود من وجوب الْمُقَدَِّمَة أَنَّهُ لاَ بُدَّ منها والَّذِي عبر عنه البعض بالوجوب العقلي؛ لأَنَّ اللابدية والضرورة ليست إلا عبارة أخرى عن التَّوَقُّف وَالْمُقَدَِّمِيَّة وأساساً العقل لا يحكم بالوجوب وليس مشرِّعاً للأحكام وَإِنَّمَا هو مدرِك للواقعيات لاسيما فِي الأمور النظرية والمقام من مدركات العقل النَّظَرِيّ. فالعقل يدرك التَّوَقُّف وَاللاَّبُدِّيَّة الَّتِي هي الْمُقَدَِّمِيَّة فحسب، والتعبير عنها بحكم العقل بالوجوب لَيْسَ إلا تعبيراً مسامحياً.

والمقصود من الوجوب الغيري للمقدمة هو الوجوب الشَّرْعِيّ، ولكن لا يُراد بالوجوب الشَّرْعِيّ جعل الوجوب وإنشاؤه، أي: يُطلق الوجوب الشَّرْعِيّ عَلَىٰ معنيين:

     المعنى الأَوَّل: الوجوب المجعول وهو أمر اعتباري وإنشائي، كجعل وجوب الحج وإنشائه فِي الآية الكريمة {وَلِلَهِ عَلَىٰ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}؛ إذ أن مثل هذا الإنشاء لَيْسَ من باب وجوب الْمُقَدَِّمَة ولم يجعل الشَّارِع الوجوب عَلَىٰ الْمُقَدَِّمَة.

     المعنى الثَّانِي: روح الوجوب الشَّرْعِيّ ومباديه وقد تَقَدَّمَ مراراً فِي بحوث عديدة أن الوجوب الشَّرْعِيّ لا يتقوم بالإنشاء وَإِنَّمَا قوامه بإرادة المولى التشريعية وطلبه، سَوَاء اعتبره فِي مقام إبراز الإنشاء والجعل أم أَخْبَرَ عن مطلوبه التشريعي وإرادته، وقلنا أَيْضاً إن هذا وجوب شرعي أَيْضاً وتجب إطاعته كما هو شأن الأوامر الشخصية عَادَةً، والبحث هنا فِي مقدمات الواجب عن روح الوجوب بأنه لو كان شيء مطلوباً نفسياً للمولى وتعلقت إرادة المولى بذاك الشيء وكان له مقدمةً فهل يريد المولى تلك الْمُقَدَِّمَة أَيْضاً أم لا؟

إذن، المقصود من الوجوب الشَّرْعِيّ الغيري هو إرادة المولى التشريعية للمقدمة تبعاً لإرادته لذي الْمُقَدَِّمَة، وَالَّتِي تكون غيرية وتبعية وارتكازية فِي المقام، أي: حينما ينظر المولى إلى ذي الْمُقَدَِّمَة تتعلق إرادته بالمقدمة أَيْضاً. وبهذا يعرف أيضاً أنه، لا توجد فِي نفس المولى روحُ الوجوب بشكل دائمي وتفصيلي لمقدمة الواجب، بل يوجد عنده بشكل ارتكازي وتبعي. أَيْ: أَن بالإمكان أن لا ينظر المولى إلى الْمُقَدَِّمَة أصلاً أو لا يراها ولا يلتفت إليها، كما إذا لم يعلم المسافة الَّتِي يجتازها الْمُكَلَّف لتحصيل الوضوء والواجب النفسي، ففي هذه الحالة لا تحصل المطلوبية والإرادة الغيرية بالفعل فِي نفس المولى أنه كما وإنما تحصل الإرادة الغيرية إذا التفت إلى المقدمية لا تكون الإرادةُ الغيرية أو الوجوبُ الغيري متعلقاً بعنوان الْمُقَدَِّمَة الكليّ؛ لأَنَّنَا سوف نقول بأن الْمُقَدَِّمَية حيثية تعليلية لطلب واقع الْمُقَدَِّمَة، مثل اجتياز المسافة للوصول إلى مكة المكرمة أو لتحصيل الوضوء أو التيمم لأجل الصَّلاَة وهكذا، لا أَنْ يَكُونَ عنوان المُقَدَِّمَةً مطلوباً.

إذن، المقصود من وجوب الْمُقَدَِّمَة هو الوجوب الشَّرْعِيّ بمعنى روح الوجوب الَّتِي هي المطلوبية والإرادة التشريعية، وهو لَيْسَ تفصيلياً ولا متعلقاً بعنوان الْمُقَدَِّمَة، بل بشكل تبعي وارتكازي لواقع الْمُقَدَِّمَة حيث يقال بناءً عَلَىٰ الملازمة: إن المطلوبية وإرادة المولى تسري إليها أَيْضاً.

     النقطة الثانية: أن هذه المسألة عَقْلِيَّة وليست لَفْظِيَّة حيث جعلها صاحب المعالم مسألة لَفْظِيَّةً وقال: إن دلالة الأمر عَلَىٰ وُجُوبِ الْمُقَدَِّمَة ليست مُطَابَقِيَّة ولا تضمنيّة ولا اِلْتِزَامِيَّة، وأشكل الخراساني عليه بأن الأمر بشيء لا يَدُلّ بِالدَّلاَلَةِ اللَّفْظِيَّة عَلَىٰ وُجُوبِ مُقَدَِّمَته حتَّى يكون البحث لَفْظِيّاً، وَإِنَّمَا البحث فِي الاستلزام العقلي وإن وُجدت دلالة لَفْظِيَّة اِلْتِزَامِيَّة بالمعنى الأعم فِي طول ثبوت الاستلزام العقلي، وهذا بحث ثبوتي عَقْلِيّ يبحث عن أَنَّهُ هل يوجد هكذا استلزام أم لا؟ وهل أن المطلوبية والإرادة النفسية للمولى تستلزم إرادةً لمقدمته تبعاً لمراده النَّفْسِيّ؟ أم لا يوجد غير تلك الإرادة والمحبوبية النفسية فِي ذي الْمُقَدَِّمَة؟ والكاشف عن هذه الملازمة هو العقل النَّظَرِيّ.

     النقطة الثالثة: حول ما إذا كانت هذه المسألة أصولية أو فقهية أو كلامية أو أنها من المبادئ التَّصْدِيقِيَّة لعلم الأُصُول؟ فهذه أقوال أربعة وردت فِي كلمات الأصوليين.

     وقيل: لو كان عنوان المسألة عبارة عن >هل تجب الْمُقَدَِّمَة أم لا< تصبح المسألة فقهية؛ لأَنَّهَا مثل قولنا: >هل الصَّلاَة واجبة أم لا؟<، بل إذا كان البحث أعم من الواجب والمستحب تعود المسألةُ فقهيةً أَيْضاً؛ ولكن إن قلنا بأن عنوان المسألة هو >هل وجوب شيء يستلزم وجوب مقدماته أم لا؟< تصبح المسألة أصولية؛ لأَنه بحث حِينَئِذٍ عن الاستلزامات العقلية التي تقع في طريق استنباط الأحكام الفقهية، وهكذا نرى أن صياغة المسألة وقالب العنوان يتدخل فِي كون المسألة أصولية أو فقهية.

     ولكن سيظهر أن هذا خاطئ و أن المسألة أصولية وليست بفقهية.

     وقيل: إنها ليست فقهية؛ لأَنَّ الفقه يبحث عن أحكام العناوين الخاصة دون العناوين العامة، وهنا حينما نقول: >الْمُقَدَِّمَة واجبة< لا نقصد بذلك وجوب عنوان الْمُقَدَِّمَة، بل أن هذا العنوان منشأ لثبوت الوجوب للعناوين الواقعيّة للمقدمات، وهي ليست عنواناً واحداً، فلا تكون المسألةُ فقهية.

     وهذا الجواب غير تَامّ أَيْضاً؛ لأَنَّ هناك مسائل فِي الفقه تثبت من خلال العنوان المشير للأحكام والمحمولات الفقهية عَلَىٰ العناوين المختلفة، كقاعدة >لا ضرر< أو >الميسور<، فيرتفع بها واقع الأحكام الضَّرَرِيَّة كالصلاة الضَّرَرِيَّة والحج الضَّرَرِيَّة وَالَّتِي هي عناوين تفصيلية مختلفة، وكذلك الميسور من كُلّ مركب واجب غير الآخر منه، وهذا المقدار لا يسبب أَنْ تَكُونَ المسألة غير فقهية.

     و أفاد المحقق العراقي & أن هذه المسألة لا تكشف عن محمول واحد بملاك واحد لموضوعاته الَّتِي هي واقع المقدمات، مُضَافاً إلى أَنَّهَا ليست خاصة بمقدمة الواجب وَإِنَّمَا يرد بحث الملازمة فِي جميع الأحكام الخمسة ومقدماتها.

     ولكن لا يَتُِمّ شيء من هذين الجوابين؛ لأَنَّ تَعَدّد الأحكام الخمسة للمقدمة لا توجب أن تكون المسألة غير فقهية؛ لأَنَّ ثبوت كُلّ حكم من الأحكام الخمسة لموضوعه مسألة فقهية، كما لا تشترط وحدةُ نوع أو ملاك الحكم المستكشف بالقاعدة الفقهية، كقاعدة >لا ضرر< أو >الميسور< اللتان يُعَدُّ البحث عنهما بَحْثاً فقهياً، ناهيك عن توفر وحدة الملاك فِي هذه المسألة وهي >التَّوَقُّف< و>اللاَّبُدِّيَّة<.

     والجواب الصَّحِيح هو أن الفقه يبحث عن الأحكام الخمسة للأفعال ولكن يبحث فيه عن حكم مُنَجّز ومعذِّر يوجِب المُحَرِّكِيَّة والمسؤولية لِلْمُكَلَّفِ، سَوَاء كان ذلك مباشراً أم لم يكن مباشراً كالأحكام الْوَضْعِيَّة الَّتِي تقع موضوعاً للأحكام التكليفية. ووجوب الْمُقَدَِّمَة عَلَىٰ فرض الملازمة وثبوت الوجوب الغيري لا يحظى بطابع التَّنَجُّز ولا استحقاق العقاب، كما لَيْسَ لها مُحَرِّكِيَّة إضافية ولا مسؤولية زائدة عَلَىٰ الواجب النَّفْسِيّ لِلْمُكَلَّفِ، ومثل هذا الحكم خارج عن الأحكام الفرعية الفقهية لاسيما أَنَّه ليس مجعولاً شَرْعِيّاً بل يشبه مبادئ الحكم الشَّرْعِيّ الَّذِي لَيْسَ البحث عنها بَحْثاً فِقْهِيّاً. إذن، إن التعريف الَّذِي ذكروه للحكم الفرعي من أَنَّهُ >يجب أَنْ يَكُونَ حُكْماً يقتضي عملاً لِلْمُكَلَّفِ< غير موجود فِي وجوب الْمُقَدَِّمَة، والبحث عن وجوب الْمُقَدَِّمَة ليس لتبرير أن نقول: إن الْمُكَلَّف ترك واجبين شرعيين، فيكون قد ارتكب معصيتين كما في ساير الواجبات.

     وإنما الوجوب الغيري يتمتع بالتأثير نفسه الَّذِي يتمتع به باقي بحوث الاستلزامات العقلية حيث أَنَّهُ يجعل الأحكام الشَّرْعِيَّة النفسية تتعارض أو تتزاحم فيما بينها، فيرفعها أو يثبتها.

     وبعبارة أخرى: إن جميع الأحكام الغيرية التَّبَعِيَّة كالوجوب الغيري لمقدمة الواجب أو الْحُرْمَة الغيرية لضد الواجب ليست أَحْكَاماً فرعية فِقْهِيَّة؛ لأَنَّهَا لا تُحمِّل عَلَىٰ عاتق الْمُكَلَّف مُنَجِّزِيَّةً ومسؤولية زائدة ولا استحقاق عقاب ثانٍ، بل تؤثر فِي تعارض أو تزاحم الأحكام الفرعية المنجزة الأخرى وتقع فِي طريقها. فعلى سبيل المثال لو كان ضد الواجب واجباً فِي نفسه أَيْضاً، فَسَوْفَ يؤدي إلى تزاحم وتعارض مع الواجب الأَوَّل، وكذلك إذا كانت مُقَدَِّمَة واجبٍ محرمةً فِي نفسها كاستخدام أرض أو أداة مغصوبة لإنقاذ غريق مسلم، حيث يتعارض أو يتزاحم فيه الوجوب والحرمة، ويتمخض عن هذا التعارض أو التزاحم إثباتُ تكليف شرعي نفسي الَّذِي يُعَدُّ حُكْماً فَرْعِيّاً، ومعنى ذلك أن وجوب الْمُقَدَِّمَة فِي نفسه لَيْسَ حُكْماً فِقْهِيّاً، وَإِنَّمَا يقع فِي طريق استنباط أحكام فِقْهِيَّة أخرى لترتفع حرمةُ الْمُقَدَِّمَة النفسية مثلاً بشكل مطلق أو مشروطٍ بفعل ذي الْمُقَدَِّمَة. وهذا هو الضَّابِط فِي كون المسألة أصولية من أَنَّهُ >كُلّ قاعدة تقع فِي طريق استنباط الحكم الشَّرْعِيّ تُكون قاعدة أصولية< كما هو الشأن فِي مباحث الاستلزامات، سَوَاء جعلنا البحث عن الملازمة والاستلزام، أم جعلناه عن وجوب الْمُقَدَِّمَة أو حرمة ضد الواجب؛ إذ أن قالب عرض المسألة وصياغة طرحها لا يغيّر روحها ومكانتها.

     وفذلكة الكلام أن البحث عن مسألة الوجوب الغيري لمُقَدَِّمَة الواجب لَيْسَ بَحْثاً فِقْهِيّاً؛ لأَنَّهَا لَيْسَت حُكْماً فَرْعِيّاً فِقْهِيّاً وَإِنَّمَا هي مسألة أصولية؛ لأَنَّها تحتوي عَلَىٰ ضابط المسألة الأصولية من كونها تقع فِي طريق استنباط الحكم الفرعي وأن تكون عنصراً مشتركاً وسيالاً فِي الأبواب الفقهية المختلفة، وهاتان الميزتان موجودتان فِي مباحث الاستلزامات العقلية.

 

     أَمَّا كون المسألة ليست كلامية فَلأَنَّ مسائل علم الكلام تبحث عن المبدأ والمعاد والثواب والعقاب مِمَّا لا تَبُتُّ بصلةٍ إلى الوجوب الغيريّ، وقلنا: حتَّى لو سلمنا بالوجوب الغيري فليس فيه استحقاق العقاب و الثواب، وأساساً لا ترتبط البحوثُ الكلامية بأحكام أفعال المكلفين كما أَنَّهَا ليست من المبادئ التَّصْدِيقِيَّة لعلم الأُصُول؛ لأَنَّهَا بنفسها تحتوي عَلَىٰ ضابط المسألة الأصولية، لا أَنْ يَكُونَ هذا مُقَدَِّمَةً لذاك حتَّى يقال إنها من المبادئ التَّصْدِيقِيَّة لمسائل الأُصُول، وهذا مطلب واضح أَيْضاً.

     النُّقْطَة الرابعة: فِي أن البحث عن الوجوب الغيري للمقدمة كان محدوداً ابتداءاً ولكن الأصوليين فتحوا فيه آفاقاً واسعةً وبحوثاً عديدةً رؤوا أَنَّهَا تنسجم معه، وتلك بحوثٌ تتّسمُ بالأهمية، بل إن كثيراً من تلك البحوث الاستطرادية أهم من البحث عن وجوب الْمُقَدَِّمَة وتتمتع بطابع عَمَلِيّ وتطبيقي أكثر، كتقسيمات الواجب حيث قسّموه تَارَةً إلى الواجب النَّفْسِيّ والغيري، وأخرى إلى الواجب المطلق والمشروط، وثالثة إلى الواجب المعلق والمنجز، فقاموا بدراسة كُلّ واحد منها وشرحها وتوضيحها وتحديد آثار كُلّ واحد منها. فكان حرياً بهم أن يفصلوا بين تلك العناوين ويدرسوها فِي عناوين مستقلة، كما أن البعض قام أخيراً بفصلها فِي تدوينه لعلم الأُصُول فِي مثل هذه العناوين: >مسألة الواجب المطلق والمشروط< و>مسألة الواجب النَّفْسِيّ والغيري< و>مسألة الواجب المنجز والمعلق< ونحن نتراءى هذه الطريقة أَيْضاً.

إذن، إن ما تشاهدونه من التطويل فِي بحث مُقَدَِّمَة الواجب ليس من أجل مُقَدَِّمَة الواجب نفسها بل إن أكثر تلك البحوث ترتبط بمباحث أصولية أخرى يَتُِمّ استخدامها فِي الفقه، ونحن ندرسها بعون الله تعالى فِي فصلين:

     الفصل الأول: تقسيمات الْمُقَدَِّمَة.

     الفصل الثاني: تقسيمات الواجب.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo