< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ يوسف السبيتي

بحث الفقه

45/06/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب القضاء.

 

القول: في الشاهد واليمين‌

مسألة (4): لو أجاب المدّعى عليه بقوله: «لا أدري»، فإن صدّقه المدّعي فهل تسقط دعواه مع عدم البيّنة عليها، أو يكلّف المدّعى عليه بردّ الحلف على المدّعي، أو يردّ الحاكم الحلف على المدّعي؛ فإن حلف ثبت حقّه، وإن نكل سقط، أو توقّفت الدعوى؛ والمدّعي على ادّعائه إلى أن يقيم البيّنة، أو أنكر دعوى المدّعى عليه؟ وجوه، أوجهها الأخير. وإن لم يصدّقه المدّعي في الفرض؛ وادّعى أنّه عالم بأنّي ذو حقّ، فله عليه الحلف، فإن حلف سقطت دعواه بأنّه عالم، وإن ردّ على المدّعي فحلف ثبت حقّه[1] .

تقدم، أن المدّعي إذا كانت دعواه تامة على مدّع عليه، فالحاكم يطلب من المدّعى عليه جوابًا على دعوى المدّعي، وهو هنا إمّا أن يُقرّ بالدعوى وقد تقدم حكمه، وإما أن يجيب بالإنكار وقد تقدم أيضًا حكم ذلك، وإما أن يسكت فإذا كان سكوته لصمم، أو خرس، أو لجهله باللغة المحكية، فقد عالجنا هذه القضية في المسألة (2) من هذا البحث.

ولكن إذا أجاب المدّعى عليه بقوله: (لا أدري) وظاهر حاله أنه ليس على علم أصلًا بحقيقة الحال، وبالتالي لا يكون في مقام الإثبات ولا النفي في كون هذه الدعوى محقّة أو باطلة. وهنا جاز للحاكم أن يسأل المدّعي ما إذا كان مصدّقًا للمدعى عليه، أو مكذبًا له.

فإن صدّقه فإنه بذلك يكون قد أسقط حقه إلا إذا أتى بالبيّنة التي هي الحجة حصرًا في المقام، إذ لا سبيل إلى اليمين ههنا لا على المدعى عليه، ولا على المدّعي، وذلك لعدم توجّه اليمين عليه لنفي الواقع إذ المفروض أنه جاهل به، وكذا لا يمين على نفي العلم إذ المفروض أن المدّعي يصدّقه في جهله بذلك.

وهكذا فلا يمين على المدّعي لعدم توجهها إلى المدّعى عليه أصلًا ليردّها على المدّعي، وعليه فيتعين إثبات حق المدّعي بالبيّنة.

وأما إذا لم يصدّقه في إدعائه الجهل بالدعوى، وأتهمه بالكذب وتجاهل الحق، فعندئذ جاز توجيه اليمين إليه لنفي العلم بذلك، فإن حلف على نفيه العلم بذلك، فلا يحكم عليه لعدم كفاية الأدلة، ولكنه لا يسقط حق المدّعي في الواقع لإعتبار أن المدّعى عليه حلف على عدم العلم بالحق، ولم يحلف على عدم ثبوته في الواقع، وعليه جاز للمدّعي أن يقيم الدعوى لاحقًا عند توفر البيّنة.

وأما إذا لم يحلف المدّعى عليه، والحال أنه صار منكرًا، جاز للحاكم أن يرد اليمين على المدّعي، فإن حلف ثبت حقّه بعد حلفه، إذ المفروض أنه حلف على ثبوت علمه بالحق.

 

مسألة (5): حلف المدّعى عليه بأنّه لا يدري يسقط دعوى الدراية، فلا تسمع دعوى المدّعي ولا البيّنة منه عليها. وأمّا حقّه الواقعي فلا يسقط به، ولو أراد إقامة البيّنة عليه تقبل منه، بل له المقاصّة بمقدار حقّه. نعم، لو كانت الدعوى متعلّقة بعين في يده منتقلة إليه من ذي يد، وقلنا يجوز له الحلف استناداً إلى اليد على الواقع فحلف عليه، سقطت الدعوى وذهب الحلف بحقّه، ولا تسمع بيّنة منه، ولا يجوز له المقاصّة[2] .

 

تقدم في المسألة السابقة (4) بأن المدّعى عليه لو حلف بعدم العلم بما يدّعيه المدّعي ممّا له حقٌ عليه، فحلفه هذا يُسقط دعوى الدراية (العلم) من المدّعي في مفروض تكذيب المدّعى عليه بقوله: (لا أدري)، وعندئذ، فلا تسمع دعوى المدّعي في هذه الدعوى مرة ثانية لا عند الحاكم ولا عند حاكم غيره، كما لا تسمع به بيّنة على هذه الدعوى.

لكن ذلك لا يوجب إسقاط حق المدّعي الواقعي الثابت في عهدة المدعى عليه على تقديره، وذلك لأن حلف المدّعى عليه كان على عدم علمه، وليس على عدم ثبوته في الواقع، وعندئذ يجوز للمدّعي أن يقيم الدعوى على ثبوت حقه عند هذا الحاكم وعند غيره، ويجوز له إقامة البيّنة على ذلك وذلك لصحة الدعوى وعدم المانع، ولعموم حجية البيّنة، كما يجوز له المقاصة بمقدار دينه فيما لو لم يحاكمه عند القاضي وذلك أولًا: لغرض تمامية موضوع المقاصة في المقام.

وثانيًا: لمقتضى بقاء آثار الحق بالنسبة إلى ثبوت المال في ذمة المدّعى عليه، ويُستدل عليه بروايات عديدة، منها صحيحة داوود بن رزين:

-(محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): إنّي أُخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، والدابّة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثم يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ قال: خذ مثل ذلك ولا تزد عليه)[3] .

وموثقة ابي بكر الحضرمي:

-(عن الحسن بن محبوب، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: رجل كان له على رجل مال فجحده إيّاه وذهب به، ثم صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله مال قبله، أيأخذه مكان ماله الذي ذهب به منه ذلك الرجل؟ قال: نعم، ولكن لهذا كلام يقول: اللّهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي وإنّي لم آخذ الذي أخذته خيانة ولا ظلماً)[4] .

نعم، إذا كان متعلق الدعوى عينًا خارجية في يده منتقلة إليه من ذب يد، وقلنا بجواز الحلف إستنادًا إلى اليد على الواقع فحلف سقطت دعوى المدّعي، وذهب الحلف بحقه، ولا تُسمع بيّنة منه، ولا بجوز له المقاصة.

وذلك لكون المفروض أنه يحلف على العلم بملكية ما في يده من العين المتنازع عليها، لإنتقالها إليه بسبب يوجب التمليك، كالشراء، أو الإرث، أ الحيازة، أو التصالح عليها، أو الإتهاب وغير ذلك من وجوه التمليك، دون ما لو لم يكن يعلم بكونها ملكاً له أو لغيره.

وعليه فإذا حلف المدّعى عليه بأن ما تحت يده ملكاً له، أوجب ذلك سقوط دعوى المدّعي كليًا، فلا تسمع له بيّنة بعد ذلك، كما لا يجوز له المقاصّة، وإن كان معتقدًا بثبوت الحق.

ويمكن الإستدلال على جواز الحلف من ذي اليد على ما في يده إستنادًا إلى اليد على الواقع بخبر حفص بن غياث:

-(محمّد بن يعقوب، عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه وعليِّ ابن محمّد القاساني، جميعاً، عن (القاسم بن يحيى)، عن سليمان بن داود، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أفيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك؟ ثمَّ تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثمَّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق)[5] .

كما يمكن الاستدلال على سقوط الدعوى وذهاب الحلف بحق المدّعي بصحيحة أبي يعفور:

 

-(محمّد بن يعقوب، عن عليِّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن عليِّ بن عقبة، عن موسى بن أكيل النميري، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي ، فلا دعوى له ، قلت له : وإن كانت عليه بيّنة عادلة ؟ قال : نعم ، وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له ، وكانت اليمين قد أبطلت كل ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه)[6] .

وأما الدليل على عدم سماع البينة من المدعي بعد الحلف وعدم جواز المقاصة عن المدعى عليه بعد ذلك فيمكن الإستدلال عليه بصحيحة سليمان بن خالد:

-(عن علي بن رئاب، عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثمّ وقع له عندي مال آخذه لمكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع قال: إن خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عتبه عليه)[7] .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo