< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ يوسف السبيتي

بحث الفقه

45/07/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب القضاء.

القول: في أحكام الحلف.

مسألة (4): لا إشكال في عدم ترتّب أثر على الحلف بغير اللَّه تعالى، فهل الحلف بغيره محرّم تكليفاً في إثبات أمر أو إبطاله -مثلًا- كما هو المتعارف بين الناس؟ الأقوى عدم الحرمة. نعم، هو مكروه، سيّما إذا صار ذلك سبباً لترك الحلف باللَّه تعالى، وأمّا مثل قوله: «سألتك بالقرآن أو بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تفعل كذا» فلا إشكال في عدم حرمته[1] .

 

تقدم في المسألة السابقة (3) أنه لا إشكال في عدم ترتب أثر على الحلف بغير الله تعالى، هذا من جهة الحكم الوضعي والكلام في هذه المسألة من جهة الحكم التكليفي، فهل يحرم الحلف بغير الله بمعنى وقوع الحالف بالإثم والمعصية أو، لا؟

في المسألة رأيان بل قولان:

الأوّل: القول بالحرمة مطلقًا، سواءٌ أكان في مقام الدعاوى القضائية، حال التنازع والخصومة عند الحاكم ليفضّ بينهما الخلاف، أم كان في المحاورات العرفية بين الناس سواءً منها حال الخصومة والنزاع، أو لإثبات أمر أو إبطاله.

واستدل أصحاب هذا الرأي ببعض الروايات المطلقة الظاهرة في النهي عن الحلف بغير الله.

ومنها صحيح محمد بن مسلم:

-(محمد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن محمد بن مسلم قال: قلت لابي جعفر (عليه السلام): قول الله عزّ وجلّ: ﴿والليل إذا يغشى﴾ والنجم إذا هوى)، وما أشبه ذلك، فقال: إن لله عزّ وجلّ أن يقسم من خلقه بما شاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به)[2] .

وصحيح الحلبي:

-(عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه‌ السلام)، قال: لا أرى للرجل أن يحلف إلا بالله، فأما قول الرجل: لا أب لشانيك، فانه قول أهل الجاهليّة، ولو حلف الرجل بهذا وأشباهه لترك الحلف بالله، وأما قول الرجل: يا هناه ويا هناه فانما ذلك لطلب الاسم، ولا أرى به بأسا، وأما قوله: لعمرو الله، وقوله: لا هاه فانما ذلك بالله عز وجل)[3] .

ومنها حديث الحسين بن زيد:

-(عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق (عليه‌ السلام)، عن آبائه، عن النبى (صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله) ـ في حديث المناهي ـ أنه نهى أن يحلف الرجل بغير الله، وقال: من حلف بغير الله فليس من الله في شيء، ونهى أن يحلف الرجل بسورة من كتاب الله عز وجلّ، وقال: من حلف بسورة من كتاب الله فعليه بكل آية منها كفارة يمين، فمن شاء برّ، ومن شاء فجر، ونهى أن يقول الرجل للرجل: لا وحياتك، وحياة فلان)[4] .

والنبوي المشهور: (عن النبي (صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله) قال: من حلف بغير اللّه فقد أشرك)[5] .

 

وتقريب الاستدلال من الروايات على الحرمة، ومقتضى إطلاق هذه الروايات بغير حرمة الحلف بغير الله تعالى حتى في صورة عدم التخاصم والدعاوى عند الحاكم.

وقد ذهب إلى هذا الرأي المحقق الاردبيلي (قده) في مجمع الفائدة والبرهان حيث قال:

(واعلم أنّ أمثالها تدلّ على عدم جواز اليمين والحلف مطلقا، الّا بلفظ (الله) فيمكن أن يحمل على ما أشرنا إليه من عدم الصحة، وعدم حصول الغرض المطلوب منه في الدعوى، من غير حصول الإثم لو حلف بغيره حينئذ، أو معه، فلا يكون جائز أيضا، وكأنه إلى الأولى أشار المصنف بقوله (لا تصحّ) ولم يقل (ولا يجوز)، ولا يستحلف، كما يوجد في غيره مثل الشرائع)[6] .

وقال ايضًا: (واعلم أنه لا إحلاف إلّا بالله، وإن كان الحالف كافرا غير معتقد بالله تعالى، وهو المشهور. ودليله عموما، مثل ما تقدّم، وخصوصا مثل صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا (يحلف ئل ـ كا ـ يب) تحلفوا (الرجل ـ ئل) اليهوديّ ولا النصراني ولا المجوسيّ بغير الله، إن الله عزّ وجلّ يقول (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ))[7] .

وصاحب رياض المسائل حيث قال:

((و) * اعلم أنه * (لا ينعقد إلا بالله) * تعالى، أي بذاته المقدسة، من غير اعتبار اسم من أسمائه سبحانه، كقوله: " والذي خلق الحبة وبرئ النسمة ولذا مع معلومية نسبه استفيض حكاية الإجماع على خلافه، فلا عبرة به.كما لا عبرة بما احتمله السيد في الشرح، من اختصاص الحلف بلفظ الجلالة للأخبار المتقدمة ونحوها، المعلقة للحكم بالجواز والانعقاد، بناء على أن المتبادر من ذلك وقوع اليمين بهذه اللفظة المخصوصة، لمخالفته الإجماع في الظاهر والمحكي في كلام الشيخين، ومنع التبادر بعد ملاحظة سياق تلك الأخبار الشاهد بأن المراد بهذه اللفظة ذاته المقدسة لا خصوصيتها، مع أن في الصحيح الأولى وقع التعبير ب‌ " إلا به " لا ب‌ " إلا بالله)[8] .

وقال ايضًا: ((المقصد الثالث في) بيان (كيفية الاستحلاف) وما ينعقد به اليمين الموجبة للحق من المدعي والمسقطة للدعوى من المنكر (و) اعلم أنه (لا يستحلف أحد إلا بالله) تعالى وأسمائه الخاصة به (ولو كان) الحالف (كافرا) كما في النصوص المستفيضة المتقدمة جملة منها، وغيرها من الإجماعات المستفيضة في كتاب الأيمان والنذور، بقي منها ما دل على عموم الحكم للكافر بالخصوص، وهي أيضا مستفيضة: ففي الصحيح: لا يحلف اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي بغير الله تعالى، إن الله تعالى يقول: «وأن احكم بينهم بما أنزل الله». وفيه: عن أهل الملل كيف يستحلفون؟ فقال: لا تحلفوهم إلا بالله تعالى)[9] .

ومسند الشيعة حيث قال:

(كما لا يصحّ الحلف إلاّ بالله سبحانه، ولا يترتّب الأثر إلاّ عليه، ولا ينعقد في باب الأيمان إلاّ به، كذلك لا يجوز الحلف إلاّ به سبحانه. فيأثم الحالف بغيره من المخلوقات ـ كالأنبياء، والأئمّة، والملائكة، والكتب المعظّمة، والكعبة، والحرم، والمشاهد المشرّفة، والآباء، والأصدقاء، ونحوها ـ على الأشهر بين الطائفة، بل قيل: إنّه مقتضى الإجماعات المنقولة. وصرّح به جماعة، منهم: المحقّق الأردبيلي وصاحب المفاتيح وشارحه وبعض مشايخنا المعاصرين)[10] .

الثاني: عدم الحرمة، واستدلوا على ذلك ببعض الروايات منها:

-(عن أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن أبي جرير القمي، قال: قلت لأبي الحسن (عليه‌ السلام): جعلت فداك، قد عرفت انقطاعي إلى أبيك، ثم اليك، ثمّ حلفت له وحق رسول الله (صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله)، وحقّ فلان وفلان حتى انتهيت إليه، انه لا يخرج ما تخبرني به إلى احد من الناس، وسألته عن أبيه أحيّ هو ام ميت؟ قال: قد والله مات، إلى ان قال: قلت: فأنت الامام؟ قال: نعم)[11] .

-(عن أحمد بن محمد، عن عليّ بن الحكم، عن مروك بن عبيد، عن (محمد بن يزيد الطبري)، قال: كنت قائما على رأس الرضا (عليه‌ السلام) بخراسان، إلى ان قال: فقال: بلغني ان الناس يقولون: إنا نزعم ان الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من رسول الله (صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله) ما قلته قطّ، ولا (سمعت احدا) من آبائي قاله، ولا بلغني من احد من آبائي قاله، ولكنّي اقول: ان الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب)[12] .

وأيضًا بسيرة المتشرعة المستمرة من زمن المعصومين (عليهم السلام) إلى زماننا الحاضر، حيث إن ديدن الناس في خواصّهم وعوامهم أنهم يحلفون بغير الله تعالى، وقد ورد في سيرة الأئمة (عليهم السلام) أنهم حلفوا بغير الله تعالى، كما في حلفهم بقرابتهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

وهذا ما ذهب صاحب الجواهر (قده) وجمع من الفقهاء (اعلى الله مقامهم) ومنهم سيدنا الأستاذ (قده).

قال صاحب الجواهر (قده):

(وإن كان الانصاف عدم وجه معتد به للتردد في ذلك، خصوصا بعد السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار من العلماء والعوام من القسم بغير الله في نحو ذلك، بل قوله تعالى: (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مشعر بوجود أيمان بغيره تعالى، بل يخطر في بالي وجود القسم في النصوص بغير الله تعالى شأنه)[13] .

وأما رواية (من حلف بغير الله فقد أشرك) فمن الواضح أنه ليس المراد من الشرك ههنا هو الشرك الحقيقي أو كيف يتحقق ذلك مع كون الخالق ممّن يؤمن بالله تعالى خاصة إذا كان يحلف برسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليه يحمل على الكراهة بلا خلاف.

ويمكن الجمع بين الدليلين لكل من الرأيين بحمل الروايات الناهية على الكراهة بلا أي إشكال في المقام، خصوصًا أن التعليل في رواية الحلبي بأنه (يوجب ترك الحلف بالله تعالى). يشير إلى إمكانية الجمع بينهما وأما مثل قول القائل: (سألتك بالقرآن أو النبي (صلى الله وعليه وآله) أن تفعل كذا) فلا إشكال في حرمته وذلك لكون هذا القول من باب الاستشفاع بالقرآن والنبي (صلى الله عليه وآله) أو من قبيل توسيطهما في ذلك، وليس من باب الحلف والقسم بغير الله تعالى.

 


[5] السنن للبيهقي: ج١ ص٢٩، - وقريب منه في مسند أحمد : ج٢ ص٦٩.
[9] رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي، ج13، ص118، ط مؤسسة النشر الإسلامي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo