< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ يوسف السبيتي

بحث الفقه

45/09/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب القضاء.

القول: في أحكام اليد.

تابع مسألة (8): لو تعارضت البيّنات في شي‌ء، فإن كان في يد أحد الطرفين، فمقتضى القاعدة تقديم بيّنة الخارج ورفض بيّنة الداخل؛ وإن كانت أكثر أو أعدل وأرجح. وإن كان في يدهما فيحكم بالتنصيف بمقتضى بيّنة الخارج وعدم اعتبار الداخل. وإن كان في يد ثالث أو لا يد لأحد عليه، فالظاهر سقوط البيّنتين‌ والرجوع إلى الحلف أو إلى التنصيف أو القُرعة. لكن المسألة بشقوقها في غاية الإشكال من حيث الأخبار والأقوال، وترجيح أحد الأقوال مشكل وإن لا يبعد في الصورة الاولى ما ذكرناه[1]

 

2-إنما يراد من التعارض في المقام مختلف عمّا يراد به التعارض بين الروايات في غير المقام، إذ أن التعارض الأخير يلجأ الفقيه إلى العمل بالتخيير بينها، بخلاف التعارض في المقام فإنه لم يذهب أحد إلى تخيير الحاكم، بل لا بد من العمل إما بالقرعة أو بتنصيف العين بين المتنازعين، ويرجع ذلك إلى الخصوصيات المحفوفة بالمقام، أو بما يلهم الله تعالى الحاكم النباهة وعلم الفراسة.

3-إن مبدأ العمل بالمرجحات في حال تعارضت البينات هو من الأمور العقلائية التي يميلون إليها في شؤون حياتهم، ومردّ الترجيح عندهم أعم ممّا ورد في النصوص من المرجحات في المقام، وعليه يمكن التعدّي منها إلى كل ما أمكن أن يكون مرجحًا عقلائيًا وعرفًا أقرّه الثقات من أهل الخبرة في كل فن من الفنون ويصح الاعتماد عليه.

4-تبين من ترجيح بعض الروايات على الأخرى لأسباب الترجيح المتقدمة، بأنه لا حاجة إلى اللجوء إلى الحلف بعد الأخذ بإطلاق روايات ما دل على حجيّة البيّنة، وعليه نحمل روايات الحلف على الاستحباب أو نطرحها من الأساس لما تقدم من الأخذ بالمرجح.

عود على بدء:

أما في القضية الأولى: (إذا كان الشيء في يد أحدهما خاصة) فقد تبين مما تقدم ترجيح بيّنة الخارج على بيّنة الداخل لما ذكرنا من ترجيح روايتي منصور والمرسل عن الإمام علي (عليه السلام) والإجماع والشهرة، وبذلك تختلف عن كل من القضيتين الثانية والثالثة من جهة الحكم.

أما القضية الثانية: (إذا كان الشيء في يدهما معًا) فالحكم بالتنصيف لمقتضى القاعدة بأن ثبوت يد إثنين على تمام المال الواحد، فإن مرجعه إلى ثبوت يد كل منهما على النصف المشاع فيكون كلُّ منهما داخلًا وخارجًا معًا، فبيّنة كل واحد منهما مسموعة بالإضافة إلى النصف الخارج، وغير مسموعة بالنسبة إلى النصف الداخل فلا محالة يحكم بينهما بالتنصيف على طبق القاعدة.

مضافًا لما مرّ من النصوص والشهرة على التنصيف ولما تقدم من عدم لزوم الحلف لعدم الدليل المعتبر به على الإحلاف خصوصًا مع إطلاق دليل حجية البيّنة.

وأما القضية الثالثة: (إذا لم يكن الشيء في يد أحدٍ منهما، أو كانت في يد ثالث).

وإنما المراد هنا عدم إدعاء الثالث للعين التي تحت يده وعدم إقراره بأنها لأحدهما على نحو الخصوص.

وفي الواقع فإن هذه القضية في غاية الإشكال لإضطراب الأقوال والإختلاف الواسع في الروايات فمنهم من ذهب إلى الترجيح بالأعدلية لإجماع إبن زهرة في الغنية المتقدم واختاره صاحب الجواهر (قده) بالإضافة إلى الشهرة على ذلك، وهو ما نُقل عن علي بن بابويه في رسالته، ذكره الصدوق (قده) في المقنع حيث قال: (فكلّ من أقام البيّنة فهو أحقّ به، فان أقام كلّ واحد منهما البيّنة، فانّ أحقّ المدّعيّين من عدل شاهداه، وإن استوى الشّهود في العدالة فأكثرهما شهوداً يحلف باللّه ويدفع إليه الشّيء، هكذا ذكره والدي رحمه‌الله في رسالته إليّ)[2] .

ومن لا يحضره الفقيه حيث قال: (وَقَضَى عَلِيٌّ ع فِي رَجُلٍ جَاءَ بِهِ رَجُلَانِ فَقَالا إِنَّ هَذَا سَرَقَ دِرْعاً فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُنَاشِدُهُ لَمَّا نَظَرَ فِي الْبَيِّنَة وَ جَعَلَ يَقُولُ وَ اللَّهِ لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَا قَطَعَ يَدِي أَبَداً قَالَ وَ لِمَ قَالَ كَانَ يُخْبِرُهُ رَبِّي عَزَّ وَ جَلَّ أَنِّي بَرِي‌ءٌ فَيُبَرِّئُنِي بِبَرَاءَتِي فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ ع مُنَاشَدَتَهُ إِيَّاهُ دَعَا الشَّاهِدَيْنِ وَ قَالَ لَهُمَا اتَّقِيَا اللَّهَ وَ لَا تَقْطَعَا يَدَ الرَّجُلِ ظُلْماً وَ نَاشَدَهُمَا ثُمَّ قَالَ لِيَقْطَعْ أَحَدُكُمَا يَدَهُ وَ يُمْسِكَ الْآخَرُ يَدَهُ فَلَمَّا تَقَدَّمَا إِلَى الْمِصْطَبَّة لِيَقْطَعَا يَدَهُ ضَرَبَا النَّاسَ حَتَّى اخْتَلَطُوا فَلَمَّا اخْتَلَطُوا أَرْسَلَا الرَّجُلَ فِي غُمَارِ النَّاسِ‌ وَ فَرَّا حَتَّى اخْتَلَطَا بِالنَّاسِ فَجَاءَ الَّذِي شَهِدَا عَلَيْهِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَهِدَ عَلَيَّ الرَّجُلَانِ ظُلْماً فَلَمَّا ضَرَبَا النَّاسَ وَ اخْتَلَطُوا أَرْسَلَانِي وَ فَرَّا وَ لَوْ كَانَا صَادِقَيْنِ لَمَا فَرَّا وَ لَمْ يُرْسِلَانِي فَقَالَ عَلِيٌّ ع مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ أُنَكِّلْهُمَا)[3] .

والعلامة في مختلف الشيعة حيث قال: (أن النبي -عليه السلام- ادعى عليه أعرابي سبعين درهما ثمن ناقة باعها منه، فقال -عليه السلام-: قد أوفيتك، فقال الأعرابي: اجعل بيني وبينكم رجلا يحكم بيننا، فأقبل رجل من قريش فقال له -((صلى الله عليه وآله))-: احكم بيننا، فقال للأعرابي: ما تدعي على رسول الله -((صلى الله عليه وآله))-؟ فقال: سبعون درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: قد أوفيته، فقال للأعرابي: ما تقول؟ فقال: لم يوفني، فقال لرسول الله: ألك بينة على أنك قد أوفيته؟ قال: لا، فقال للأعرابي: أتحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال: نعم، فقال رسول الله -((صلى الله عليه وآله)): لأحاكمن هذ الرجل إلى رجل يحكم فينا بحكم الله تعالى، فأتى رسول الله -((صلى الله عليه وآله))- علي بن أبي طالب -عليه السلام- ومعه الأعرابي، فقال علي -عليه السلام- ما لك يا رسول الله؟ فقال: يا أبا الحسن احكم بيني وبين هذا الأعرابي، فقال علي -عليه السلام-: ما تدعي على رسول الله؟ فقال: سبعون درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ فقال: قد أوفيته ثمنها، فقال علي -عليه السلام- يا أعرابي أصدق رسول الله فيما قال؟ قال: لا ما أوفاني، فأخرج علي -عليه السلام- سيفه فضرب عنقه، فقال رسول الله: لم فعلت ذلك يا علي؟ فقال: يا رسول الله نحن نصدقك على أمر الله ونهيه وأمر الجنة والنار والثواب والعقاب ووحي الله تعالى ولا نصدقك في ثمن ناقة هذا الأعرابي، فإني قتلته، لأنه كذبك لما قلت له: أصدق رسول الله فيما قال: فقال: لا ما أوفاني شيئا، فقال رسول الله -((صلى الله عليه وآله))-: أصبت يا علي فلا تعد إلى مثلها، ثم التفت إلى القرشي وكان قد تبعه فقال: هذا حكم الله لا ما حكمت به. وروت الشيعة أيضا عن ابن جريح، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله -((صلى الله عليه وآله))- من منزل عائشة فاستقبله أعرابي ومعه ناقة فقال: يا محمد أتشتري هذه الناقة؟ فقال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: نعم، بكم تبيعها يا أعرابي؟ فقال: بمائتي درهم، قال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: ناقتك خير من هذا، قال: فما زال النبي -((صلى الله عليه وآله))- يزيد حتى اشترى الناقة بأربعمائة درهم، قال: فلما دفع النبي -((صلى الله عليه وآله))- الدراهم إلى الأعرابي ضرب الأعرابي يده إلى زمام الناقة وقال: الناقة ناقتي والدراهم دراهمي فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة، قال: فأقبل رجل فقال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: أترضى يا أعرابي بالشيخ المقبل؟ فقال: نعم يا محمد، فلما دنا قال: اقض في ما بيني وبين هذا الأعرابي، قال: تكلم يا رسول الله، فقال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي، فقال الأعرابي: بل الدراهم دراهمي والناقة ناقتي فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال الرجل: القضية فيها واضحة يا رسول الله وذلك أن الأعرابي طلب البينة، فقال له النبي -((صلى الله عليه وآله))-: إجلس فجلس، ثم أقبل رجل آخر فقال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: أترضى يا أعرابي بالشيخ المقبل؟ قال: نعم، فلما دنا قال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: إقض في ما بيني وبين هذا الأعرابي، قال: تكلم يا رسول الله، قال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي: لا بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي، فقال الرجل: القضية فيها واضحة يا رسول الله، لأن الأعرابي يطلب البينة، فقال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: إجلس حتى يأتي الله بمن يقضي بيني وبين الأعرابي بالحق، قال: فأقبل علي -عليه السلام- فقال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: أترضى بالشاب المقبل؟ قال: نعم، فلما دنا قال: يا أبا الحسن إقض بيني وبين الأعرابي، فقال: تكلم يا رسول الله، فقال النبي -((صلى الله عليه وآله))-: الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي، فقال الأعرابي: بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال علي -عليه السلام-: خل بين الناقة وبين رسول الله، فقال الأعرابي: ما كنت بالذي أفعل أو يقيم البينة، فدخل علي -عليه السلام- منزله فاشتمل على قائم سيفه ثم أتى الرجل فقال: خل بين الناقة وبين رسول الله، فقال: ما كنت بالذي أفعل أو يقيم البينة، قال: فضربه علي -عليه السلام- ضربة فأجمع أهل الحجاز على أنه رمى برأسه، وقال بعض أهل العراق: بل قطع منه عضوا، فقال النبي -((صلى الله عليه وآله)): ما حملك يا علي على هذا؟! فقال: يا رسول الله نصدقك على الوحي من السماء ولا نصدقك على أربعمائة درهم. قال السيد المرتضى: وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسن بن بابويه القمي -رحمه الله- وقد روى هذين الخبرين في كتابه المعروف ب‌ (كتاب من لا يحضره الفقيه): هذان الخبران غير مختلفين، لأنهما في قضيتين، وكانت هذه القضية قبل القضية التي ذكرناها قبلها. وقد روت الشيعة أيضا في كتبها خبر أمير المؤمنين - عليه السلام - مع شريح قاضيه في درع طلحة بن عبيد الله لما قال - عليه السلام -: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة ومطالبة شريح له بالبينة على ذلك وإحضاره -عليه السلام- الحسن ابنه -عليه السلام- وقنبرا غلامه، وقوله -عليه السلام- لشريح: أخطأت ثلاث مرات. ورووا أيضا حديث خزيمة بن ثابت -ذي الشهادتين- لما شهد للنبي -((صلى الله عليه وآله))- على الأعرابي، فقال له النبي -((صلى الله عليه وآله)): كيف شهدت بذلك وعلمته؟ قال: من حيث علمت أنك رسول الله. فمن يروي هذه الأخبار مستحسنا لها معولا عليها كيف يجوز أن يشك في أنه كان يذهب إلى أن الحاكم يحكم بعلمه؟! لولا قلة التأمل من ابن الجنيد)[4] .

ومنهم من ذهب إلى الترجيح بالأكثرية عددًا وذلك لصحيحة أبي بصير المتقدمة:

-(محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن صفوان، عن شعيب، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي القوم، فيدّعي داراً في أيديهم، ويقيم البيّنة، ويقيم الّذي في يده الدار البيّنة أنه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه، وذكر أنَّ عليّاً (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم، ولم يبيعوا، ولم يهبوا [وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك]، فقضى (عليه السلام) بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم، قال: فسألته حينئذ، فقلت: أرأيت إن كان الذي ادّعى الدار قال: إنَّ أبا هذا الّذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يقم الّذي هو فيها بيّنة، إلاّ أنه ورثها عن أبيه، قال: إذا كان الأمر هكذا فهي للّذي ادّعاها، وأقام البيّنة عليها)[5] .

ومع فقدان المرجحات أو تساويها فيدور الأمر بين الأخذ بالقرعة وبين القول بالتنصيف بين المتنازعين وبين الحلف ومع حلفهما يجعل المال نصفين إستنادًا لرواية أسحاق بن عمّار المتقدمة.

ولكن مع هذا فإن الاحوط التراضي والتصالح مطلقًا لما عرفت من كثرة الاختلاف في الأدلة التي ليس لها ضابطة كلية يمكن الرجوع إليها بضرس قاطع، والله العالم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo