< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

40/07/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الفرق بين العرف المتسامح والمسامحة المأخوذة في المعنى المتبادر العرفي:

قد بينا في تبيين مرجعية العرف أن المقصود من العرف ومرجعيته هو الاعتماد على العرف الصحيح الدقيق الذي لا يتسامح في تعيين المفاهيم وتطبيقها على المصاديق.

فبذلك البيان لايصح الاعتماد على العرف المتسامح، ولابد وأن يعتمد على العرف غير المتسامح، أي لابد للعرف أن يفهم معنى العنوان المأخوذ في موضوعات الأحكام مع ما له من القيود والحدود، ثم يطبقه على المصاديق بالدقة العرفية ومن دون أية مسامحة. وهذا هو المقصود من العرف الدقيق والاعتماد على هذا العرف في تعيين المفاهيم والتطبيق على المصاديق، وهذا هو الأصل والأساس في مرجعية العرف.

ولكن قد يقال: إنّ العرف يفهم معنى العنوان المأخوذ في موضوعات الأحكام مع القيود والحدود، ويطبق على المصاديق بدقة عرفية، وإنْ كان التسامح هو الملحوظ في المعنى المتعارف في أذهان العرف، أي أن العرف يحكم بالمعنى المسامحي المرتكز فى أذهان الناس، لأنه هو المتبادر الى أذهانهم من عنوان الموضوع.

وهذا متفاوت مع العرف المتسامح في التطبيق؛ لأن العرف إما أن يحكم بتعيين المفهوم ويطبق على المصداق بتسامحٍ في التطبيق وعدم الدقة العرفية، فهذا القسم لا يُعتَبَر عند الشارع، وإما أن يحكم بتعيين المفهوم مع التسامح المأخوذ في نفس المفهوم وقيوده، وهذا لا يسمى العرف المتسامح؛ بل هو عبارة عن العرف الدقيق، إذ بسبب دقته عرف المعنى الذي قد لوحظ فيه التسامح.

وفي هذا المجال نطرح بعض الأمثلة كي تتضح المسالة برأسها:

    1. في تحديد معنى الكرِّ والفرسخ والميل ونحوها يكون المقصود منها هو المقدار المتبادر إلى أذهان أهل العرف، ولا شك هي مقصودة مع ما لها من المعاني الدقيقة، فإذا طبّق العرف عنوان الفرسخ على مسافة أقل من المقدار المتعارف في أذهان أهل العرف بالدقة العرفية - ولو بشبر أو أقل- فهذا العرف غير قابل للاعتماد.

    2. إذا تزوجت المطلقة أو المتوفى عنها زوجها قبل انقضاء العدة بقليل - ولو بلحظة - نقول ببطلان العقد؛ لأجل مسامحة العرف في التطبيق.

نعم، في بعض الموارد يصدق العنوان في نظر العرف، لكن لعدم دقة أهل العرف وعدم التفاتهم إلى الفرق الموجود بين الحد الحقيقي المتبادر وبين الحد العرفي المسامحيّ يخطئ العرف في التطبيق. ومع ذلك لو التفتَ أهل العرف لحكموا بعدم مصداقية الموضوع المسامحي للحكم الشرعي، لأن الشرع يريد التطبيق على المعنى الحقيقي.

وأما في تعيين مفهوم الاستقبال من البعيد وتطبيق المفهوم على المصداق فهو متفات مع سائر الأمثلة؛ لأن استقبال القبلة من بعيدٍ له جهتان من المعنى:

الجهة الأولى: تعين المفهوم والتطبيق بالدقة العلمية.

الجهة الثانية: بنظر العرف ومن غير دقة علمية.

فمن الجهة الأولى لا شك في أنه يلزم الاستقبال باعتبار محاذاة مقاديم البدن نحو المسجد الحرام بالدقة العلمية، ولكن من الجهة الثانية لا اعتبار بهذه الدقة العلمية، بل الاعتبار بصدق العنوان، أي إذا كان الإنسان مستقبلاً القبلة والكعبة - ولو بجهة الكعبة - يحكم بصدق العنوان؛ لأنّ هذا المصداق هو المتبادر الى أذهان أهل العرف (أي المعنى المسامحي هو المتبادر العرفي وبدقة عرفية).

ففي هذه المورد لا يتسامح العرف؛ بل المعنى المسامحي هو المأخوذ في تعيين المفهوم والتطبيق على المصداق، ولا شك في اعتبار هذا المعنى المتبادر عند الشرع.

وهذا المشهور عند الفقهاء والأصوليين، وإن كان البعض يخالف الآخرين؛ كالمحق النائيني حيث خالف وقال بالتفصيل بين تعيين المفهوم والتطبيق على المصداق، أي قال بجواز الاعتماد على المعنى المسامحي المتبادر إلى أذهان أهل العرف في مقام تطبيق المصداق، وعدم الجواز في تعيين المفهوم. ولكن لا نريد أن ندخل في هذا الجانب من البحث.

ونلتفت هنا إلى كلام السيد الإمام الخميني في ذلك - وإن كان كلامه طويلاً ومفصلاً – حيث يقول:

في أنَّ المراد من العرف ليس العرف المسامح: ‌

ثم إن المراد بالعرف في مقابل العقل ليس هو العرف المسامح حتى يكون المراد بالعقل العرف الغير المسامح الدّقيق ضرورة أن الألفاظ كما انها وضعت للمعاني النّفس الأمرية تكون مستعملة فيها أيضاً عند إلقاء الأحكام، فالكر والميل والفرسخ والدم والكلب وساير الألفاظ المتداولة في إلقاء الأحكام الشرعية لا تكون مستعملة إلا في المعاني الواقعية الحقيقية، فالكرُّ بحسب الوزن ألف ومائتا رطل عراقي من غير زيادة ونقيصة، لا الأعم منه و ما يسامح العرف، وكذا الدم ليس إلا المادة السيالة في العروق التي تكون بها الحياة الحيوانية، لا الأعم منها وما يطلق عليه اسم الدم مسامحة.

و ليس التسامح العرفي في شي‌ء من الموارد ميزاناً لا في تعيين المفاهيم ولا في تشخيص المصاديق، بل المراد من الأخذ من العرف هو العرف مع دقته في تشخيص المفاهيم والمصاديق، وأن تشخيصه هو الميزان مقابل تشخيص العقل الدّقيق البرهاني، مثلاً شبهة في أن الدم عبارة عن المائع المعهود الجاري في القلب والعروق والمسفوح منه موضوع للحكم بالنجاسة، وليس ما يتسامح فيه العرف ويطلق عليه الدم تسامحاً موضوعاً لها، لكن العرف مع كمال دقته في تشخيص مصاديقه يحكم بأن اللون الباقي بعد غسل الثوب ليس بدم ويكون لون الدم، لكن البرهان العقلي قام على امتناع انتقال العرض فيحكم العقل لأجل ذلك على أن اللون هو الأجزاء الصغار من جوهر الدم. والكلب ليس عند العرف إلا الجثة الخارجية والحياة من حالاتها، وميتة الكلب كلب عندهم حقيقة، وعند العقل البرهاني لما كانت شيئية الشي‌ء بصورته وصورة الكلب نفسه الحيوانية الخاصة به فإذا فارقت جثته سلب منها اسم الكلب وتكون الجثة جمادا واقعة تحت نوع آخر غير النوع الكلبي بل يسلب عنها اسم جثة الكلب و بدنه أيضاً، ويكون إطلاق بدن الكلب على الجثة المفارقة عنها الروح مسامحة لدى العقل كما هو المقرر في مقاره من العلوم العالية مع أنها كلب لدى العرف حقيقة.

و بالجملة: ليس المراد من كون تشخيص المفاهيم ومصاديقها موكولاً إلى العرف هو التسامح العرفي؛ فالتسامح العرفي في مقابل الدقة العقلية البرهانية لا في مقابل دقة العرف.

نعم قد يكون بين المتكلم والمخاطب في عرف التخاطب وتعارف التكلم بعض المسامحات التي تكون مغفولة عنها لديهم حال التكلم، ويحتاج التوجه إليها إلى زيادة نظر ودقة، ومع الدقة والنظرة الثانية يتوجه المتكلم والمخاطب إلى التسامح ففي مثل ذلك يكون المعنى المتفاهم ابتداء موضوعاً للحكم، فإذا قال المولى إذا قمت إلى الصلاة فولّ وجهك شطر المسجد الحرام لا يفهم المخاطب من هذا الكلام إلا استقبال المسجد بنحو المتعارف، وإن كانت الدقة العرفية أيضاً تقتضي كونه أضيق مما هو المتفاهم عرفاً، فالمناط في أمثاله هو التفاهم العرفي لا الدقة العقلية إن قلنا بأن الميزان هو العرف.

ثم إنه لا إشكال في أن الميزان في تشخيص جميع المفاهيم ومصاديقها وكيفية صدقها عليها هو العرف؛ لأن الشارع كأحد من العرف في المخاطبات والمحاورات وليس له اصطلاح خاص ولا طريقة خاصة في إلقاء الكلام إلى المخاطب فكما يفهم أهل المحاورات‌ من قول بعضهم: اجتنب عن الدم أو اغسل ثوبك من البول، يفهم من قول الشارع أيضاً، وليس مخاطبة الشارع مع الناس إلا كمخاطبة بعضهم بعضاً، فإذا قال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، لا يكون المراد منه إلا الغسل بنحو المتعارف، لا الغسل من الأعلى فالأعلى بنحو الدقة العقلية، فكما أن العرف محكم في تشخيص المفاهيم محكم في صدقها على المصاديق وتشخيص مصاديقها، فما ليس بمصداق عرفاً ليس بمصداق للموضوع المحكوم بالحكم الشرعي، فما أفاده المحقق الخراسانيّ من أن تشخيص المصاديق ليس موكولاً إلى العرف - وتبعه غيره- ليس على ما ينبغي، فالحق ما ذكرنا تبعاً لشيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه([1] ).


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo